الملحق الثقافي- فاتن دعبول:
لا يختلف اثنان أن للثمرة الأولى من الإبداع نكهة خاصة، ومكانة ربما لا يوازيها الكثير من منتجاتنا اللاحقة، لأنها تحمل في مضمونها معان كثيرة من التردد تارةً والخوف تارةً أخرى، وربما تحمل الفرح الكبير بولادة مشروع كنا نحلم به لسنوات طويلة، وفجأة نراه قاب قوسين أو أدنى من مرأى العين والقلب.
وقبل أن ندفع بمنتجنا الأول إلى المتلقي على اختلاف شرائحه، لابد من وقفة حميمية تكون فاتحة الكتاب وهي الإهداء، ترى من يكون صاحب الحظ الذي سينال هذا الشرف العظيم، ويخلد اسمه في الصفحة الأولى، هل هو صديق كانت له يداً بيضاء ليرى هذا المنتج النور، أم هناك أم كانت تقضي الليل في الصلوات تدعو لابنها بالتوفيق، أم هو الزوجة شريكة العمر واللحظات السعيدة، فكيف يتم اختيار المهدى إليه، ولمن تكون الأولوية في الإهداء، سؤال سنجد الإجابة عنه عبر الاستطلاع التالي:
أثمن هدية
يقول الدكتور (إبراهيم محمود زعرور) رئيس فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب:
أهديت كتابي الأول الصادر في عام 1984 عن تاريخ حلب، لوالدي رحمه الله ولروحه السلام.
أما مصير الكتب التي تهدى إلي، فأجد أن أثمن هدية تقدم لي هي الكتاب، والاحتفاظ بهذه الهدية في مكتبتي والحرص الشديد عليها، وهي ثروة الباحث والكاتب والأديب وسواه.
وأكثر ما يؤلم الإنسان ويوجعه، عندما يجد كتاباً مرمى على الرصيف لبيعه وعليه إهداء، هذه قضية لها علاقة بالوعي والثقافة والقيم، ومهما كانت الأسباب أو الموجبات لمن يمارس هذا السلوك، لا يمكن تسميته إلا بالجهل لقيمة العلم والمعرفة والفكر، ألم يقل الشاعر: وخير جليس في الأنام كتاب؟
الأرصفة .. متحف للكتب المهداة
يرى الدكتور (نزار بني المرجة) أن ثمة فارق بين الإهداء المطبوع عادة في الصفحة الأولى لنسبة غير قليلة من الكتب، والذي يريد منه الكاتب وينظر إليه النقاد أيضاً على أنه عتبة لنص أو مضمون الكتاب.
وأعتقد أن المقصود من السؤال هو عبارة الإهداء المكتوبة بخط يد الشاعر أو الكاتب أو المؤلف على نسخة واحدة فقط من الكتاب يخص بها صديقاً له مكانة في قلبه.
يقول: لقد أهديت أول نسخة من ديواني الشعري الأول وكان بعنوان» أفراح الحزن القارس» وصدر في دمشق في العام 1982 إلى والدي رحمه الله.
ومن الطريف والمؤلم في آن معاً، أن نعثر على كتب ومؤلفات تحمل إهداءات بخط يد وقلم المؤلف، معروضة للبيع في محلات أو بسطات الوراقين على الأرصفة، وهذا الأمر حصل معي عندما فوجئت بنسخة من ديواني الأول المذكور وتحمل إهداء مني لأحد الأصدقاء الراحلين، فاشتريتها بصمت، واستغراب من جهة، وبسرور من جهة ثانية، لأنه لم يعد لدي أنا شخصياً أية نسخة من ذلك الديوان.
وذات يوم فوجئت بوجود مقال قصير للأستاذ (ديب علي حسن) في صحيفة الثورة يحمل صورة غلاف لديواني الثاني» سيد الماء والتراب» الذي صدر بالتعاون بين اتحاد الكتاب العرب ودار مجلة الثقافة لصاحبها الأديب الراحل مدحة عكاش في دمشق في العام 1991 وصورة إهداء بخطي لدكتور وباحث ومؤرخ معروف كان أستاذي في كلية طب الأسنان.
وفي الحالتين كان التقدير والتفسير لدي أن الورثة لا يحبون الشعر أو الثقافة، ولا يهتمون بتلك الكتب التي ربما تشكل كتلتها أمراً غير مرغوب فيه، في زمن الثقافة الإلكترونية، وكذلك نمط الحياة الاستهلاكية الذي تعيشه الأجيال الحالية، والذي يبتعد عن مناهل الثقافة الحقيقية ومراجعها الورقية.
وبالتالي يصح ما ورد في السؤال، وهو أننا بتنا نعيش تحول الأرصفة إلى متاحف لكتب تحمل إهداءات خطية من كتاب وشعراء إلى زملائهم الكتاب والشعراء أو إلى معارفهم وأصدقائهم، ويرغب الكثيرون باقتنائها، لأنها تحمل قيمة مضافة، كونها تحمل عبارات مكتوبة بخط يد مؤلف الكتاب وتوقيعه وتاريخ الإهداء.
أستثمرها في الكتابة
ويبين الأديب والشاعر (رياض طبرة) أن إهداء مجموعته القصصية الأولى كان لأمه التي علمته الصبر ومحبة الناس، وهل هناك أغلى من الأم لتهدى باكورة عمل ربما كانت هي شريكة به.
ويقول: مع أني صرت مثقلاً بما يأتيني من كتب صادرة عن زملاء مبدعين وغاليين على قلبي، فأنا لا أهمل أي كتاب، ومصير هذه الكتب القراءة بكل اهتمام وانتباه ومحبة، ثم اختار بعضها للإضاءة عليه ونشر ذلك في الصحف والدوريات، ولدي الكثير من هذه الإضاءات الانطباعية منشورة في الثورة وتشرين والبعث والأسبوع الأدبي.
ويضيف: لا نستطيع تجاهل الأمر المؤسف وهو أن مكتبة الرصيف تحولت إلى معرض للكتب المهداة، وقد لمست ذلك شخصياً حيث وجدت بعض الكتب التي أبحث عنها معروضة للبيع وهي مازالت على حال إهدائها لم تفتح ولم ينزع عنها حتى ورق النايلون الذي يحميها من التلف.
وحزنت لمصير بعض الكتب تلك، لكن ذلك لا يعني أن كل ما هو معروض يخضع لهذه المجزرة الثقافية، فهناك على الرصيف كتب ليست مهداة من أحد، ولكنها لم تنفد في المكتبات أو لم يعد لها من مكان في مكتبات أصحابها، فسيقت إلى الأرصفة في صيف حار جداً أو شتاء قارس كهذا الشتاء.
مصير مهين
ولأنه الشاعر الرقيق المنتمي، فقد أهدى الشاعر (محمود حامد) كتابه الأول وكان بعنوان» موت على ضفاف المطر» لسورية وفلسطين، الجناحان الخافقان في سماوات الأبد.
يقول: جميع الكتب التي تهدى لي، قمت بقراءتها والكتابة عنها، ثم أرشفتها بمكتبتي، ولكن أن تذهب هذه الإهداءات إلى مكتبة الرصيف، فهذا من أخطر المواضيع المسيئة، حيث تفقد الثقة بين المبدعين، واستبعاد فكرة الإهداء، حتى لا تنتهي هذه الكتب إلى مقرها الأخير على الأرصفة، وتحت مسمى» كتب أرصفة».
ذكرى غالية
أما الروائية إيمان شراباتي فتقول: كتابي الأول هو رواية» بنت العراب» كتبت في الإهداء: إلى سورية، التي شطرت مواكب الألم نظراتها، ونفذت وحوش المرض إلى دمائها، ومازالت تنتظر الشفاء، إليها وإليكم وإلى كل مواطن بغض النظر عن دينه أو عرقه أو طائفته،
أما الكتب التي تهدى إلي، فأحتفظ بها في مكتبتي بعد قراءتها كذكرى غالية، أما أن تباع الكتب المهداة على الرصيف، فهذا استهانة بالكتاب واستهانة بالكاتب صاحبه.
للإهداءات قيمة كبرى
وترى الأديبة (سوسن رضوان) أن الصفحة الأولى في كتاب أي مؤلف هي الصفحة التي يظهر فيها صادقاً تحت مطر روحه، يفتح ذراعيه للصدق، لقد أهديت كتابي الأول لنفسي التي أدركت حقيقة تفاصيل المشاعر فيها، ولأبي الذي لم يتثن له التقاط حضن نجاحي، فقد توفاه الله باكراً، وأهديت كتابي الثاني لأولادي ولكل الشباب من جيلهم، فقد كانوا غيمة خير هطلت على روحي، ومداداً لقلمي الذي سكب مشاعر مختلطة في مواعين الحب والصبر والحنين.
وعلى الرغم من بساطة السؤال إلا أني حيرى، فقد يصادف المرء أو الأديب حصراً، أناس يتمنى لو أنه عرفهم سابقاً لعظمة تقديرهم واهتمامهم بما يكتب، لقد قدمت لأصدقائي الكثيرين رواية» غضب البنفسج» والتي تشرفت بصدارتها على رفوف مكاتبهم ورأيهم الذي أثرى وأعطى القيمة الكبرى للعمل.
وبالنسبة لي أحاول تصنيف كل الكتب المهداة لي لأحاول قراءتها اتباعاً، وكتابة رأي موجز عنها، أسعد كثيراً بما يهدى لي وأعتبره قيمة كبرى مهما قل.
وفي مكتبة الرصيف كنت دائماً أبحث عن كتاب يعنيني، وكنت أجمع كتبي من مكتبة الرصيف لرخص ثمنها، وبخاصة بعدما أحرقت مكتبتي بالكامل في الحرب، لكن برأيي أن الكتب المهداة يجب أن نحافظ عليها، ولا تكون عرضة للإهمال والتلف على قارعة الرصيف، فلربما يمر بها كاتبها فتكسر منه المشاعر وتجرح إحساسه بمن أهداها له يوماً، ولم يعرها تقديراً
أطرحها للإعارة
وللشاعرة والأديبة (رنا علي) سنة أخرى في الإهداء، تقول: الإصدار الأول كان إهداء مجانياً لكل من حضر حفل التوقيع الذي أقيم في العام 2013، ومازلت على هذا الرأي في كل إصدار، لكن في مقدمة المطبوعات يكون الإهداء ضمنياً أو واضحاً لأبي وأمي.
أما الكتب المهداة لي رغم محاولة احتفاظي بها، إلا أن القوة ترجح لصالح رغبتي بإعارتها لمن يحصل عليها، للإطلاع والفائدة التي أرجو أن تغنيه وتملأ روحه.
وأضافت: أن تذهب هذه الكتب المهداة إلى مكتبات الرصيف، فهذا أمر يعز علي، وأشعر أنني واحدة منها» أهديك قلبي وروحي فتهبها لعابر رصيف ربما داس عليه من لا يستحق نبضي».
الأمر يؤلمني، وهذا ذنب الهادي، فقد أعطى خلاصة روحه وعصارة فرحه لمن لا يستحق، لشخص تباهى لدقائق بصورة أو بتوقيع ثم ظهر للعلن، وكي لا نظلم الجميع، فقد بات الكتاب لدى بعض الأسر، خاصة الورثة الذين فقدوا عماد عقلهم» كراكيب» ويجب التخلص منها للأسف.
العدد 1123 – 6-12-2022