الملحق الثقافي- محمد خالد الخضر:
منذ أن بدأ التاريخ يسجل مكونات اللغة العربية الأصيلة التي بهرت العالم وسكنت الأذهان والعقول وقدمت جماليات لا يمكن للغات العالم أن تقدم مثلها أو بعضاً منها، وأول ما قدمته من مكوناتها الحضارية .. كان الشعر الذي اعتبر على مر التاريخ حافظاً لها، فكانت العرب في عصر الشعر الأصيل، والذي سمي خطأ العصر الجاهلي .. كانوا يفخرون إذا اكتشفت موهبة شاعر .. لأنه سيكون وجه القبيلة والناطق باسمها، والمدافع عنها، ولعل أهم شاعر قام بهذا الدور على مر التاريخ .. هو عنترة العبسي الذي لم يأخذ حقه في تسليط الضوء على دوره في الدفاع عن أهله وعرضه وأخلاقه لأن اللغة العربية كونها أجمل لغات العالم، وأكثرها استجابة لتكوين الحضارات استهدفت بقوة.
فالشاعر عنترة العبسي رغم أنه كان عبداً لكنه امتلك كل الصفات التي أدخلته التاريخ بأمانة، وهو الشاعر الذي قدم كثيراً من المناقب الأخلاقية التي يتحلى بها صاحب المروءة والنخوة والشرف بأسلوب شعري من الصعب صناعته فهو وليد موهبة ولا يمكن أن تكونه أداة كقول عنترة:يعيبون لوني بالسواد جهالة
ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
وقوله:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
هذه القيم الأخلاقية لا يمكن أن تستوعبها إلا لغة راقية وعصية وناتئة ومتحدية عبر العصور والأزمنة فهي الحريصة أن يكون الإنسان منطقياً يعرف حدوده وحركاته وعلاقاته وسلوكياته الشخصية ويتمتع بأخلاق عالية كقول أحمد شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأكثر ما يؤرق أعداء اللغة العربية هذا الانتماء الشديد بين أصحاب الموهبة الحقيقية في العصر الحديث وبين أجدادهم القدماء.
وثمة أمر مهم جداً هو استيعاب اللغة العربية لأهم منطلقات الحكمة والبناء الإنساني السليم فتعالوا نقرأ معا بيت طرفة بن العبد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وحتى لا تخرب شخصية الإنسان ويبقى تمسكه بالتسامح والمحبة كثيراً ..قال بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
أما تعبير الشعراء عن الحب الكبير جاء عند نزار قباني بأسلوب سهل ممتنع مشكلاً بالجماليات وأصالة اللغة أيضاً كقوله:
زمانك بستان وعصرك أخضر
وذكراك عصفور من القلب ينقر
هكذا كان الشعر من أهم مقومات الحفاظ على اللغة العربية وأهم مؤشر على أصالتها وعراقتها وقوة واستمرار حضورها.
إلا أن الشعر بعد تعرض البلدان العربية للاحتلال استهدف إلى أكبر الحدود وحاولت الشعوبية التي أغلب القائمين عليها ينتمون إلى مؤسسات يهودية والتي حاولت أن تشتغل على تعدد اللهجات وصناعة الشعر بدلاً من تنميته واستبداله بآلاف الأنواع ..فلابأس أن يكون بكل مدينة أو قرية ما يسمى بشعرها الخاص بها ومحاولة إقصاء الموهوبين الحقيقيين الذين ينتمون لأمتهم ووطنهم لقتل الغيرة والحميمية واستبدال الموهبة بالصناعة والتدريب، فأصبح الآن لا يفرق أغلب القائمين على المؤسسات الثقافية بين الشعر وبين السجع فراحت الأضواء تتسلط على كل من يؤشر بيديه ويتدرج بصوته ويحرك خصره دون أن يعرف كثير مما يكتبون عن الشعر ..الفرق بين الشعر والسجع وبين النثر الضعيف الذي لا يمتلك مقومات ولا موازين فيقدمه الفيسبوك إلى المنابر على طبق لا يؤدي إلا إلى أذى اللغة وأكثر ما يؤلم الشعور والموهبة والمشاعر أن أغلب الإعلاميين أو المتابعين للثقافة ولاسيما أصحاب المؤسسات الخاصة يروجون بقصد أودون قصد إلى ما يصنعه لنا الآخرون ولابد من ذكر أن كل الذين انزاحوا عن مسارهم وراحوا يكتبون كما يريد الآخر سقطوا في مهبات الخيانة سواء بحضور مؤتمرات السلام دون أن يكلفهم أحد أو بزيارة الأعداء والتصريح ضد اللغة العربية ولسنا نمانع أبداً أن يتطور الشعر دون أن يكون عدواً للغته وشرط أن يكون أجمل وأقوى منا هو عليه.
فمن كتب أجمل من قول النابغة الذبياني:
كأنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقول محمد مهدي الجواهري:
وحين تطغى على الحران جمرته
فالصمت أفضل ما يطوى عليه فم
فإذا اطلعنا على بناء الشعر الفني نجد أن القصيدة الناتجة عن موهبة تمتلك قواعد وقوانين وجماليات وتتميز إضافة إلى ذلك بموسيقا وتوازن موضوعي فما مكونات القصيدة المصنوعة حتى لو افترضنا أن بعضها يمتلك صوراً فماذا أضافت على القصيدة الأم ونحن ننتظر بفارغ الصبر النص الشعري الذب يحترم لغته ويأتي أجمل من سابقه بمكونات أشد قوة وصعوبة وأكثر جمالاً وعذوبة.
العدد 1126 – 3-1-2023