الملحق الثقافي:
للحديث عن طقوس الكتابة صلة وثيقة بعلم النفس، تماماً كما لتعريف الإبداع صلة بهذا العلم.
وإن كانت تكتنف جنسية الإبداع الاختلافات إلا أننا نستطيع أن نوجزه برأي علم النفس الذي يقول: هو فعالية إنسانية وخَلْقٌ ينبغي أن يتجاوز الواقع المعتاد، ويتخطى ماهو مألوف بهدف إنتاج صور ورموز وأفكار مغايرة من أجل استشراف آفاق جديدة تبرهن على المَلَكَة الخلَّاقة للفرد ككائنٍ يسعى دوماً إلى تغيير واقعه، أي إنَّ الإبداع وفق هذا التعريف يُعْد تخطِّياً وتجاوزاً للواقع، وقد يبقى في الحدود الذاتية للفرد، أوينصهر في إيقاعٍ جماعي يحفِّز مختلف القدرات الذاتية لتطوير الواقع، لذلك يتماشى هذا الفعل الإبداعي مع بُعدَين، بعد نفسي وفردي يؤكد على المخزون الفردي في الإبداع، باعتباره تفجيراً لرغبات وصور وأفكار يجد المبدع في المجال الإبداعي مُتَنَفَّساً لها، ولحظة تعويضية يكشف فيها عن تلك الأفكار والرغبات بما يراه أكثر شمولاً وجمالاً، كل هذا يحصل من خلال تفاعل العالم الداخلي للمبدع مع عالمه الخارجي وموقعه ضمن دينامية التفاعل.
هذا كله يقودني إلى ربط طقوس الكتابة الإبداعية بهذا التعريف الذي يع المبدع ذا عالَمَين، عالم داخلي نفسي يرتبط بمَلَكةٍ ومخزونٍ ثقافي وانفعالاتٍ ترتبط ببنيته النفسية، وعالم خارجي هو بيئته بكل جزئياتها من مناخ وناس وظروف وأحداث تفرض عليه لاشعورياً حالة معينة من التفاعل، ولعلّ هذا مايجعل طقوس الكتابة الإبداعية تختلف بين المبدعين باختلاف دواخلهم من جهة ومحيطهم من جهة أخرى.
لذلك قد يشترك مبدعون بمحيط خارجي واحد نوعاً ما، هذا لن يؤدي إلى نتاج إبداعي واحد لاختلاف دواخلهم من نفسٍ ومَلَكةٍ وثقافةٍ، لكل منها حيثياتها بالتلقي والتفاعل والتأثر. وهذا الأمر يقودنا إلى الاختلافات بين طقوس الكتابة عند الكتَّاب، باعتبار الكاتب كائناً اجتماعياً لايمكن أن ينقل مابداخله إلا في سياق إبداعي اجتماعي لأنه جزء منه، إلا أن كل كاتب يظل متميزاً بخصوصيته لأنَّ العملية الإبداعية صادرة عن الذات الفردية ونابعة منها، تماماً كما يتميز بطقوس الكتابة النابعة عن هذه الذات بكل خصوصيتها وتفاعلها مع محيطها.
ومن خلال دراسات كثيرة حول هذا الأمر تأكد وجود اختلافات في طقوس الكتابة عند الكتَّاب فرضتها نفسية ومَلَكَة وثقافة الكاتب والبيئة المحيطه به من مناخ وعلاقات، وطريقة عيش وظروف…
فكثيرون لايستطيعون الكتابة في الصيف ويجدون في الشتاء خير محرِّض للكتابة عندهم، تماماً كما رغبة بعضهم بالكتابة ليلاً لانهاراً، إلى ماهنالك من اختلافات، كأن يكتب أحدهم كيفما وُجِدَ وآخر ترتبط الكتابة عنده بمكان معين، وجلسة معينة، وهدوء مطلق، و…و…و….
لكني هنا أريد أن أشير إلى جانب آخر مهم جداً بالنسبة لطقوس الكتابة الإبداعية، وأركز هنا على (الإبداعية) لأنَّ فعل الكتابة عند بعض الكتَّاب قد لايكون إبداعياً موحى به بعد تفاعلات ثقافية نفسية مجتمعية وملكة لها خصوصيتها التي تفرض على المبدع في لحظة نضوج متكامل كما في حال الجنين لحظة الولادة لما يعتمل في داخله، لذلك يقومون به في أية لحظة يشاؤون.
الأمر الآخر المهم بالنسبة لطقوس الكتابة الإبداعية يفرضه في رأيي الجنس الأدبي الذي يكتبونه.
فمثلاً نجد حالة الخلق الأدبي اللاإرادية، الموحى بها تتجلى أكثر ماتتجلى في الشعر، وغالباً ماتكون في أي مكان وظرف ووقت، أي لاتترافق بطقس خاص بكل شاعر، وإن كان لكل شاعر المحرضات الداخلية والخارجية الخاصة به…
وإذ أقول هذا أقوله من خلال تجربتي الخاصة في قرض الشعر، ومن خلال آراء الآخرين في الدراسات.
أما قصة الأطفال التي أكتبها فهي في البداية تخضع لتفكير طويل أحدد فيه القيمة التي أريد طرحها، ثمَّ أختار العناصر بدقة، دارسة لها من الناحية العلمية، ثم أنسجها في ذاكرتي، وأظل أفكر بها حتى تأتي لحظة لاأستطيع التحكم بها تفرض نفسها في نقل مافي ذهني إلى الورق، ولا تنتهي كتابتي للنص هنا بل تكون المرحلة النهائية التي أختار فيها الجو المناسب لأقوم بعملية التبييض التي تكون فعلاً إرادياً كاملاً يتم فيه تغيير هذه الكلمة أو تلك، وهذه الجملة أو هذه بما يجعل النص على حالته النهائية.
ومثل هذا وأنا أكتب القصة للكبار، حيث تحتاج مني التفكير الطويل الذي لايرتبط عندي بمكان أو زمان أو طقس معين، لأنه يلازمني حتى تكتمل لحظة التخلُّق، التي ثفرض عليَّ نقلها إلى الورق، لأعيد قراءتها مرَّات ومرات، وتدقيقها وتصويب ماأراه بحاجة إلى تصويب..
لكني وأنا أكتب الرواية، وهي نص طويل وجدت أنني أكثر تحكماً إرادياً بلحظات الكتابة، وأكثر دراسة للأحداث الكثيرة مع الصياغة وأنا أكتب.
أما المقالة والدراسة فهي تختلف تماماً عن كل ماسبق ذكره ويحتاج إلى المَلَكَة والموهبة والثقافة المتراكمة عبر حياة الكاتب وتفاعله مع المحيط وظروفه، وامتلاك الثقافة اللغوية المناسبة..
هنا إذا أردت التحدث عن تجربتي أستطيع أن أقول إنني لا أربط كتابتي بزمان ومكان محدَدَين وبجو يجب أن يتوافر حتى أكتب، وإن كنت ميالة إلى الكتابة في الشتاء أكثر، ونتاجي به وفي الخريف والربيع يتضاعف، وأحب الركون إلى الليل أكثر عند قراءتي ماكتبته في النهار، أو عند إلحاح فكرة علي، ويفرض كل هذا عليِّ نمطُ حياتي ونفسيتي، التي تغيرت مع التقدم في العمر لتصبح حالةُ الهدوء ضرورةً أكثر للكتابة واستجماع الأفكار التي تصبح أكثر تفلُّتاً عند أي انقطاع، وهذا مالم يكن يحصل في مرحلة الشباب ..
أما ماحدث من تغيُّر بالنسبة لأدوات الكتابة ودخولنا عالم الكمبيوتر، فما زالت الكتابة عندي، ولاسيما الكتابة الأولى للنص الشعري أو القصة بعيدة عن تقبله لارتباط فعل الكتابة عندي بالقلم والورقة التي مازلت متعلقة بها عند المطالعة أيضاً لوجود ألفة ضاربة الجذور في أعماقي التي لم تستطع التفلُّت من سحرها وهي تعانق مداد القلم …
العدد 1132 – 14-2-2023