الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
سواء أكنا معجبين بموتسارت بسبب أوبراه، أو جان بول سارتر لفلسفته، أو فيليني لأفلامه، أو أجاثا كريستي بسبب حبكاتها، نتساءل أحيانًا كيف تمكن هؤلاء الفنانون من ابتكار مثل هذه الروائع عندما نكافح نحن من أجل الاستيقاظ صباحاً لممارسة أنشطتنا وأعمالنا..
كيف ينظم هؤلاء العباقرة يومهم لزيادة إنتاجيتهم وإبداعهم؟ هل يجب أن نكون في مكان مريح أم مقيد؟ هل يجب أن تستثمر كل وقتك في مشروع ما أو المضي قدمًا شيئًا فشيئًا، بينما تمارس أنشطة أخرى؟ هل يجب عليك فرض روتين أو على العكس من ذلك تغييره قدر الإمكان؟ جمع الصحفي في صحيفة نيويورك تايمز Mason Currey الطقوس اليومية لما يقرب من 250 فنانًا وملحنًا وكاتباً ومبدعًا في كتاب(الروتين اليومي، كيف يعمل الفنانون) لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة، والعثور على الميول المشتركة لبعضهم بعضاً للاستلهام منها.
وبالنسبة للمخرج إنغمار بيرجمان، فإن صناعة فيلم يعني العمل الجاد لمدة ثماني ساعات تقريبًا يومياً للحصول على بضع دقائق فقط من الإبداع الحقيقي، ووفقًا له، يتعلق هذا الإبداع بالوصول إلى العمل بنجاح مع العلم أن 90٪ من النتيجة ستكون ذات جودة رديئة، ولكنها ستكون خطوة ضرورية للنجاح في سحب خيط فكرة رائعة بعد ذلك.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه لا توجد وصفة معجزة، وأن مفتاح النجاح هو حقًا إيجاد الروتين الذي يناسبنا بشكل أفضل. أونوريه دي بلزاك وفيكتور هوغو مؤلفان فرنسيان ذائعا الشهرة. ومع ذلك، قسم الأول يومه إلى فترتين من الكتابة لأكثر من ست ساعات، تفصل بينهما قيلولة، والتي تقابل ما يقرب من ثلاث عشرة ساعة من الكتابة في اليوم. بينما ركز هوغو وقت عمله على ساعتين من 6 مساءً إلى 8 مساءً.
هناك العديد من الكليشيهات المتضاربة حول الفنانين وعادات نومهم. هناك نظرية تخص أولئك الذين يستيقظون باكراً من جهة ثم هناك صورة الإبداع الذي يغذيه الفجور والحياة الليلية من جهة أخرى.
كتب نيتشه ذات مرة أن «الأفكار الوحيدة الجديرة بالاهتمام تأتي أثناء المشي». حقيقة لا يمكن لأحد نفيها. نظرًا لأن الخروج في نزهة على الأقدام، والحصول على بعض الهواء النقي، يتيح لك التراجع عن أفكارك، وخلق أفكار جديدة. وقد ثبت أن المشي يزيد الإنتاجية والإبداع. وهذا ما أثبته باحثون في جامعة ستانفورد مؤخراً في أن المشي يساعد على تزويد الدماغ بالأوكسجين وأن الطلاب يصبحون أكثر إبداعًا بعد ذلك. كان تشارلز ديكنز يسير بسرعة عبر لندن لما يقرب من ثلاث ساعات كل يوم، وكان جون ميلتون يسير في حديقته صعودًا ونزولًا لما يقرب من أربع ساعات، وقسم تشارلز داروين يوم عمله بثلاث فترات من المشي، والاستيقاظ . وهذا أيضاً ما دأب عليه بيتهوفن من أجل تبديد القلق الذي تسببه العملية الابداعية، يمارس المشي منذ الفجر بعد أن يعد ستين حبة بن واحدة تلو الأخرى، تلك التي تصنع قهوته، برفقة دفتر ملاحظاته الذي لا يتخلى عنه البتة، ثم ينطلق بحثاً عن الالهام في الطبيعة، ويقولون عنه»كان يحب أن يكون وحيداً في الطبيعة ليجعلها صديقته الوحيدة المقربة.» أحب الشجرة أكثر من الرجل». قام كيث ريتشاردز بتأليف وتسجيل جوقة الرضا في منتصف الليل بعد وميض أثناء نومه. الأفكار في بعض الأحيان عابرة والأهم هو التدرب على التقاطها وتسجيلها. وكان الموسيقار إيغور سترافينسكي لا يستطيع التأليف إلا إذا كان متأكدًا من أنه لا يمكن لأحد سماعه وهو يعزف.
أيضًا، نرى عند قراءة الكتاب أن معظم العباقرة كانت لديهم حياة اجتماعية محدودة إلى حد ما، معتبرين أنها كانت مضيعة غير مجدية للطاقة. كان بابلو بيكاسو وزوجته يجتمعون مع أصدقائهم في أيام الأحد فقط، على سبيل المثال. أما مارسيل بروست فقد انسحب تمامًا من العالم ليكرس نفسه لعمله. وكان يكتب كل أعماله مستلقياً، ويرسخ كل ليله لبحثه الأبدي عن الوقت الضائع. وعندما يستيقظ في الرابعة صباحاً يخفف من نزلات الربو بالأفيون بعدها يتناول قهوته وقطعة كرواسان، ودائماً من المخبز نفسه.
ونتحدث كثيرًا عن الروتين، ولكن في بعض الأحيان يحتاج المبدع إلى تجنب الروتين بأي ثمن للبقاء نشيطًا ومنتِجًا. يؤكد العديد من الفنانين الحاجة إلى خلق فترات راحة في طريقة عملهم وتشجيع التغيير الدائم. هذه هي حالة المخرج وودي آلن على سبيل المثال. يقول إنه يتعين عليه باستمرار تغيير الغرف للكتابة أو متابعة فكرة، كل تغيير يجلب له شكلاً من أشكال النضارة. ويوضح أيضًا أنه يأخذ حمامات طويلة عدة مرات في اليوم، وخاصةً عندما تستعصي عليه الفكرة.
وفيما يحتاج البعض إلى تحديد مساحة عمل محددة للغاية، كان البعض الآخر يفعل كل شيء لتجنب الشعور بالعمل. هذه هي حالة أجاثا كريستي التي تقول في سيرتها الذاتية إن آلة كاتبة وأي طاولة كانت كافية لها، سواء أكانت الحافة الرخامية لحمامها أم طاولة طعام. ومع ذلك، ليس من السهل دائمًا العمل بسلام: فقد أبقى غراهام جرين موقع مكتبه سراً حتى يدعوه بمفرده. وجين أوستن كانت تخفي نشاطها الكتابي عن جميع الأشخاص خارج دائرة عائلتها. كانت تكتب على قصاصات ورقية صغيرة يمكن إخفاؤها بسهولة إذا دخل زائر للغرفة.
وعلى سبيل المثال، كان غوستاف فلوبير صاحب رواية مدام بوفاري يعلن عن استيقاظه في العاشرة صباحاً بقرع الجرس ليأتوا له بصحفه وكوب الماء وغليونه وبريده، وبعدها يطرق على السقف، في إشارة إلى أن الوقت قد حان لوالدته للانضمام إليه للدردشة. كان يعمل لمدة 12 ساعة يومياً وفقاً لروتين منظم للغاية. وبعد تتبع جملة مكتوبة على مخطوطة مرفوعة على منصة موسيقا يشعل الكاتب غليونه، ويتراجع إلى الخلف، ويتمعن في الكلمات وسط جو عابق بالدخان بعد ربع ساعة، يحذف فاصلة عديمة الفائدة، وفي الربع الساعة الأخرى يستبدل كلمة غير مناسبة. وبعد 45 دقيقة يمسح كل شيء ليبدأ من الصفر.
أما بنيامين فرانكلين، مخترع مانع الصواعق، فكانت تسير يومياته وفقاً لمخطط نظامي دقيق، قسمه بين العمل والقراءة والموسيقا والترفيه والوجبات. واقتناعاً منه بفضائل الهواء النقي، كان يعمل عارياً كل صباح لمدة ساعة في غرفته، وهي طقوس أطلق عليها «الحمام البارد» والتي كانت تهدف إلى تقوية جسده وعقله. وفي النهاية، يبدأ يومه وينتهي بسؤالين: «ما الجيد الذي سأفعله اليوم؟» و»ما الخير الذي فعلته اليوم؟». ويصف المخرج السينمائي كلود لاتزمان بأنه كان يهرب وزوجته من كل الحفلات والاستقبالات. «لقد كانت حياة مجردة من الفائض ومسلحة بالأساسيات: البساطة التي نحتاجها للعمل».
على الرغم من نمط الحياة المتدهور، حيث يتم خلط الكحول والمخدرات يوميًا، كان الرسام فرانسيس بيكون أيضًا مخلوقًا من العادات والروتين. وهكذا كان يذهب كل يوم مع جهجهة الضوء إلى مرسمه للعمل، بغض النظر عن المواد التي تناولها في اليوم السابق.
البعض يحتفظ بعلاقة وثيقة مع السرير، مثلاً، كان ونستون تشرشل يعمل في سريره من السابعة والنصف لغاية الساعة الحادية عشرة وأن ديكارت كان يحب المكوث في الفراش وترك عقله يتجول في نومه «عبر الغابة والحدائق والقصور المسحورة» حيث جرب «كل الملذات التي يمكن تخيلها. بينما كانت باتريشيا هايسميث منتجة فقط عندما تكتب في سريرها، محاطة بمنافض السجائر وأعقاب السجائر والكبريت والكعك ووعاء السكر. اعتادت أيضًا على شرب جرعة من الكحول قبل بدء جلسة الكتابة. كما وكانت إديث سيتويل تمضي كل أيامها في الكتابة على السرير. تقول الأسطورة إنه بين الخامسة والسادسة صباحًا، كانت ترقد في نعش مفتوح لتجد مصدر إلهام لقصصها وشعرها المهووسين.
سوف نكتشف أن كافكا، مثل كثيرين آخرين، كان عليه أن يتغلب على عقبات لا حصر لها (بعضها من صنع نفسه) وقد طور مجموعة رائعة من «المناورات الدقيقة» للكتابة كل يوم.
وسوف نجد أن جان بول سارتر كان يمضغ أقراص Corydrane (خليط من الأمفيتامين والأسبرين)، ويبتلع عشرة أضعاف الجرعة الموصى بها في اليوم.
في النهاية، يتضح من هذه الطقوس اليومية أن الإبداع هو «روح جامحة وعين منضبطة» وفق قول دوروثي باركر. ولكن من حقنا أن نتساءل: هل العبقرية هي إلهام 1٪ و 99٪ كد عرق؟ بعبارة أخرى الموهبة هي ألماس. في حالتها الخام، لا تساوي شيئًا. عليك أن تعملها، تنقشها، تنحتها، حتى تزيد قيمتها.
العدد 1132 – 14-2-2023