الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
ربّما لا يغيب عن ذاكرة الكثيرين مشاهد سرقة المتحف الوطني العراقي وتدمير آثار بلاد الرافدين العظيمة، أثناء الاحتلال الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣
وبكل تأكيد لا يغيب عن ذهن وذاكرة أجيال كاملة ما اتبعه المستعمر العثماني خلال أربعة قرون من استهداف للثقافة العربية، من خلال سياسة التتريك، ومحاربة اللغة العربية، والثقافة الوطنية والقومية، وجعل اللغة التركية لغة البلاد الرسمية، أي لغة الإدارة والتعليم، إلى جانب تبديل وتغيير أسماء المدن والبلدات العربية وتسميتها بأسماء تركية، كما فعلت بلواء إسكندرون والذي هو جزء مهم من سورية وأطلقت عليه (هاتاي)؟
وللأسف يقوم الكثيرون من رواد التواصل الاجتماعي بتداول المصطلح دونما التدقيق بخلفياته الاستعمارية؟
ولا ننسى أيضاً ما مارسه المستعمر الفرنسي في سورية والأقطار العربية الأخرى خلال فترة الانتداب من سياسات استعمارية استهدفت وحدة المجتمع السوري وزرع الفتن والنعرات الطائفية، وسعيه لتقسيم سورية إلى دويلات متناحرة على أسس طائفية ومذهبية ومناطقية، إلى جانب سرقة الآثار السورية والمقنيات التاريخية الثمينة وترسيخ اللغة الفرنسية ومحاربة اللغة العربية الأم وغيرها من ممارسات تستهدف الثقافة الوطنية السورية المادية والمعنوية.
لكن السوريين أبناء الحضارة الموغلة في القدم كافحوا المستعمر، تمسكوا بلغتهم وثقافتهم وعروبتهم وقيمهم الأخلاقية النبيلة، فكانوا القدوة والمثل لكل عربي حر أصيل.
ولا ننسى أيضاً ممارسات الكيان الصهيوني الغاصب في استهداف؛ ليس الأرض فقط في الأجزاء المحتلة من فلسطين وسورية ولبنان، إنما استهدافه للثقافة والمثقفين من خلال ضرب المنظومة الفكرية والأخلاقية لهذه المنطقة وتشويه دورها التاريخي والحضاري ومساهمتها الفاعلة والبنّاءة في الحضارة الإنسانية، حيث سعى المحتّل الصهيوني إلى محاربة اللغة العربية في الجولان لسوري المحتل، وفرض الهوية الصهيونية على سكانه وسرقة آثاره وتشويه معالمه التاريخية، وإطلاق أسماء عبرية على مدنه وقراه العربية الأصل والانتماء، ومحاولاته الدائمة والمستمرة لاستهداف الرموز الوطنية المقاومة للسياسات الاستعمارية والاستيطانية، فيلجأ إلى الاعتداءات والاغتيالات والتي أصبحت جزءاً مهماً من سياسته المدعومة من قوى غربية استعمارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
وخلال العقود الماضية من عمر هذا الكيان لم ينقطع مسلسل العدوان والاستهداف لسورية، ولعلّ آخرها استهداف قلعة دمشق التاريخية، وأحد أهم معالمها الأثرية، هذا الاستهداف يشكل جريمة موصوفة كاملة الأركان بحق الثقافة والحضارة والفكر الإنساني.
وقد عبًرت وزارة الثقافة السورية عن إدانتها لهذا الاستهداف عبر بيانها:
(إن وزارة الثقافة تدين بأشد العبارات هذا العدوان الإسرائيلي الغادر الذي استهدف موقعاً أثرياً يمثل جزءاً من التراث الثقافي العالمي، وهو أمر محظور لكون الاتفاقيات الدولية تمنع استهداف المواقع الثقافية، وبناءً عليه يُعد هذا الاعتداء جريمة مكتملة الأركان.)
إذاً نحن أمام استهداف وعدوان سافر لمنشأة تاريخية بما تحتويه من أسوار ومعاهد تعليمية، وبنى تحتية، هو استهداف للفكر والعلم والثقافة والإنسان، بل هو استهداف للهوية والانتماء والذاكرة الجمعية لهذا الشعب الأصيل المقاوم، أضف لكونها رمزاً تاريخياً لمدينة دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ.
ولعل ما عاشته سورية خلال الحرب الكونية عليها خلال أكثر من عقد، هو جزء من منظومة العدوان من خلال المجموعات الإرهابية المسلحّة بمسمياتها كافة من داعش والنصرة و….هذه التنظيمات الإرهابية لم تستهدف البُنى التحتية للشعب السوري ودولته الوطنية من مدارس وجامعات ومطارات ومنشآت اقتصادية وتنموية فقط ؟!
إنّما استهدفت الفكر والثقافة والانتماء الوطني والعروبي، من خلال نشر الفكر الظلامي الوهابي القائم على القتل والنحر والسّبي و…وغيرها من مصطلحات دخيلة على المجتمع السوري الذي يفخر بتماسكه وتنوعه وغناه التاريخي والحضاري.
كما عمدت تلك التنظيمات إلى سرقة المتاحف وتدمير التماثيل لعلماء وأدباء لهم بصماتهم في الثقافة العربية والإنسانية، مثل تمثال الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري وتدمير وتخريب متحف المعرة التاريخي، ومتحف تدمر بمقتنياته وآثاره الفريدة والتي تحكي قصة الحضارة في تلك المدينة الرائعة الجمال، والتنقيب عن الآثار بطريقة غير شرعية وسرقة وتهريب القطع الأثرية إلى خارج البلاد.
ولم تقف ممارسات تلك العصابات عند حد معين فقتلت العلماء والمفكرين والباحثين مثل المخترع السوري الأصغر في العالم عيسى عبود، والموسوعة التاريخية والأثرية الباحث خالد الأسعد، وغيرهم من قامات الوطن التي نعتز بمنجزاتهم ودورهم في الرقي والبناء.
الاستعمار، الكيان الصهيوني، التنظيمات الإرهابيّة المسلحة، أوجه متعددة لعملة واحدة تقوم على العدوان واستهداف الثقافة بشقيها المادي والمعنوي لضرب الهوية الوطنية والقومية، وهذا ما أكد عليه السيد الرئيس بشار الأسد بقوله:
(إنّ أخطر ما يمكن أن تتعرض له المنطقة العربية هو ضياع الهوية، وإنّ ما يحصل في سورية هو ليس حرباً عليها بالمعنى الضيق، بل لابد من أن نرى هذه الحرب بالمعنى الأكبر وهي الحرب على الانتماء).
مهما تعددت الأسماء والمسميات، هناك تكامل في الأدوار المشبوهة لتلك القوى الاستعمارية والتي تعمل على استهداف الثقافة والهوية والانتماء لهذا البلد، الذي قاوم الاستعمار والاحتلال والإرهاب بإيمانه المطلق بدوره الحضاري والتاريخي ورسالته السامية للإنسانية جمعاء.
العدد 1134 – 28-2-2023