هي بضع ثوان فقط

الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
في روايته الساعة الخامسة والعشرون للروائي قسطنطين جورجيو نقتبس بعضاً منها:”إن آلام البشر لا يمكن أن تقاس بالكيلوغرامات والأطنان، إن الحياة لا يمكن أن توزن، إن ذلك الذي يحاول وزنها يرتكب خطيئة قاتلة”
“هناك بعض الميتات التي لا تخلف وراءها جثثاً”
“الخطر هو نفسه في كل مكان..ولا اختلاف سوى في ردود أفعال البشر”
يتراءى لي أن كل واحد منا مدينة فيها تضاريسها، ولها طبيعتها، وتغزوها متغيرات
ألم نجمّد أشياء فينا على مدى سنين عجاف ؟
أليس من الوارد أن ترتفع الحرارة فجأة لاحتكاك ما مع صروف الحياة ومافيها؟
وذلك الصدع الساكن فينا..من يدري متى يحدثنا بأخباره؟ نحن الذين تحولنا خلال ثوان إلى قبضة من طين يعوزنا فقط نفخ الروح فيها. بضع ثوان كانت كافية لتغيير معالم الحياة. قلبها رأساً على عقب، تبديل الفرح إلى حزن. والاجتماع لفراق، هي ثوان لم تغير ملامح الأرض فقط، بل غيرت ملامح القلوب. ثوان معدودات بدلت ما في النفوس. حينها كانت التضحية الإنسانية هي الجديرة بالذكر خلافاً لما يراه جورجيو في روايته تلك، والحياة البشرية كانت الأولى أمام كل إصرار وتحدٍ. كم في أعماقنا من كوارث بشرية لا تشير إليها الأرصاد الجوية ..ولكن تنبهنا لها الكوارث الطبيعية!! أنتم الآن في الملمات واحد.. نعم.. كسر الزلزال جميع الحواجز القائمة في قلوبنا، وتجرد الجميع من كل الانتماءات سوى للوطن والإنسان.
أكاد أجزم أن أحداً لا يختلف مع دوستويفسكي في قوله “الإنسان الذي تربيه المصاعب لن يكون تلميذاً لأحد”. كل الكوارث التي أحاطت بنا قبل الزلزال وكانت أشبه بإحاطة السوار بالمعصم. ظننا أن الإنسان في ظلها قد تهاوى وسقط بين حطام ظلمه وجبروته وقسوته، فأصبح شبيهاً بالأنقاض التي تهاوت هي الأخرى. تلك الأنقاض التي وقف أمامها رجال الإنقاذ شاخصو عيونهم فاتحو أفواههم، توَقفوا كتماثيل حجرية مصغية لأصوات منبعثة من جثثِ ما زالت تنبض بالحياة، سحقها زلزال في ساعة فجر. تصارع الموت الفظيع تضرعاً. رجال مرهقون يضربون بالفؤوس والمطارق الثقيلة أو يحملون الحجارة بأيديهم بحثاً عن أرواح بين هذا الركام. أشخاص قادمون من كل أنحاء البلاد للمساعدة يحملون معهم الطعام والبطانيات والخيام، عمال إنقاذ يعملون حد الإنهاك طوال ساعات اليوم، وعلى الجانب الآخر أناس يائسون يقفون ينتظرون أخبار عن أحباء كانوا قبل قليل يتقاسمون معهم ضحكات وأحاديث، لم يكملوها لأن النعاس داهمهم. مخنوقين بدمهم مكبلي الأيدي. ينظرون مذعورين إلى هذا الدمار بعد أن شاهدوا الموت بكل تفاصيله.. يحدقون بصمت إلى كل المحاولات التي يتمنون ألا تموت بحثاً عن يد تعيد لهم أجزاء منهم بقيت تحت الركام. ظنوا أنهم سبقوهم في النجاة. ينتظرون بتلهف نبأ ما. لكن الأمل بالعثور على أحبائهم تحت أطنان من الخرسانة والفولاذ يتضاءل مع مرور الأيام، ومع ذلك لا يغادرون المكان، ظلوا جالسين أمام نيران تقيهم من برد الليل، الضوء الوحيد هو الذي يأتيهم من داخلهم في ذكريات تبعث فيهم الدفء الذي فقدوه في لحظة أعادت تشكيل بانوراما مأساة، كسّر مشاهدها تعاقب الأوقات، ووقفوا وجهاً لوجه أمام هشاشتهم وأمام صلابة كاذبة. لربما تناهى إلى مسامعهم صوت من كانوا قبل لحظات يحيطوهم بأذرعتهم أزواجاً وأطفالاً. هل من الصواب أن تدعوننا “ناجين”!ّ؟ هل يكفي أن يعبر الهواء رئتيك لتكون على قيد الحياة، وأنت تشعر أنك دفنت قلبك تحت أنقاض البيت قبل لحظات..!؟ أم تقول لا بأس المهم أخرجوه من تحت الأنقاض بعد سماع خبر وفاة ابنها. يحمدون ربهم لأنهم ظفروا بجثة قريب لهم لا بروحه، اكتفوا بها جثة لأنها أخف بلاء من موت بلا جثمان يدفن.
في السطر الأول من رواية الغريب يقول ألبير كامو:”اليوم ماتت أمي، أو لعلها ماتت أمس، لست أدري، وصلتني برقية من المأوى” الأم توفيت. الدفن غداً. احتراماتنا”. تلك هي الأخبار التي كانت تتوارد إلى البعيدين ممن كان يعد عدته بعد الشتاء للزيارة، ويسألهم فرداً فرداً ماذا تحبون أن أجلب لكم معي. يتسائل: أيعقل أنهم باتوا الآن إحصائيات وأرقاماً.
من أكبر فواجع الأقدار، تحول الفواجع إلى إحصائيات وأرقام، وإلى أعداد في عجلة إلى تحديثات مستمرة بأن الألف صاروا عشرة آلاف، والعشرة آلاف صاروا عشرين ألفاً.. والعشرين ألف أصبحوا أربعين.. وما تزال الأرقام تتصاعد..إنهم ليسوا ثلاثين ألفاً، وليسو أربعين ألف قتيل، ولا خمسين ألف ضحية، ولا خمسين ألف وفاة، ولا مصرع ستين ألفاً. دعونا نتمهل قليلاً، وندرك أنهم ليسوا سوى الآلاف من حياة، الآلاف من الحكايات، الآلاف من القصص، الآلاف من الشخصيات المستقلة المختلفة، الآلاف من الشبكات ذات الأبعاد الإنسانية والاجتماعية، ثلاثون، أربعون خمسون ألف إنسان، ووجهة نظر، وطريقة مفضلة للحياة. أي الآلاف من الحياة التي غادرت الحياة، وغادرت معهم الحياة حياة أحبائهم الناجين.. وتستمر الأرقام وتزداد الفواجع. وبانتظار الملايين من القصص التي سوف تروى بالنزف لا بالحرف.
   

العدد 1134 – 28-2-2023

آخر الأخبار
مديريات المحافظة تستنفر لإنجاز التحضيرات قبيل  فعاليات معرض دمشق الدولي ذكرى مجزرة الشعيطات ..جرحٌ مفتوح في ذاكرة الفرات غزة تحت وطأة الجوع.. أزمة إنسانية تتجاوز حدود السياسة نزيه شموط لـ"الثورة": طباعة العملة الجديدة يمنح "المركزي" أداة تحكم بالنقد العام مزارعو محردة بانتظار قرار تأجيل الديون حذف الأصفار من الليرة السورية..   خبراء  ل " الثورة ": خطوة تنظيمية في طريق  الإصلاح الاقتصادي معركة الماء في حلب.. بين الأعطال والمشاريع الجديدة تأهيل طريق مدينة المعارض استعداداً للدورة ٦٢ لمعرض دمشق الدولي التوجه إلى التمكين… "أبشري حوران".. رؤية استثمارية تنموية لإعادة بناء المحافظة السيطرة على حريق شاحنة في  حسياء  الصناعية تفاصيل مراسيم المنقطعين والمستنفدين وتعليماتها بدورة تدريبية في جامعة اللاذقية الكيماوي… حين صارت الثقافة ذاكرة الدم  واشنطن في مجلس الأمن: لا استقرار في سوريا من دون عدالة ومشاركة سياسية واسعة  " التلغراف ": الهيئة الدولية المسؤولة عن مراقبة الجوع بالعالم ستعلن للمرة الأولى "المجاعة" في غزة ضبط لحوم فاسدة في حلب وتشديد الرقابة على الأسواق تنظيم سوق السكن في حلب والعمل على تخفيض الإيجارات "المجموعة العربية في الأمم المتحدة": وحدة سوريا ضمانة حقيقية لمنع زعزعة الاستقرار الإقليمي بين الهجوم والدفاع.. إنجازات "الشيباني" تتحدى حملات التشويه الإعلامي منظمة يابانية: مجزرة الغوطتين وصمة لا تزول والمحاسبة حق للضحايا مندوب تركيا في الأمم المتحدة: الاستقرار في سوريا مرهون بالحكومة المركزية والجيش الوطني الموحد