النظرية السياسية الرابعة كمواجهة للوضع الراهن 2-2

الملحق الثقافي- ترجمة د. ثائر زين الدين:
الكسندر دوغين

لا يمكن أن تقدَّم النظرية السياسية الرابعة نفسها إلينا من تلقاء ذاتها.. قد تظهرُ وقد لا تظهر.. الشرط المسبق لظهورها هو الاختلاف وعدم الوفاق.. الاختلاف مع ما بعد الليبرالية كممارسة عالمية، ومع العولمة، ومع ما بعد الحداثة، ومع «نهاية التاريخ»، ومع الوضع الراهن، ومع التطور العطالي للعمليات الحضارية الرئيسة في بداية القرن الحادي والعشرين.
لا يفترضُ الوضعُ الراهن والعطالةُ الذاتية أيّ نظريات سياسيّة على الإطلاق.. الكوكبُ(العالم) المعولم، يجب أن تحكمه فحسب القوانينُ الاقتصاديّةُ والأخلاقُ العالميّةُ « حقوقُ الإنسان».. حيث تُستبدَلُ القراراتُ السياسية جميعها بقراراتٍ فنيّة.. تحلّ التقنيّة والتكنولوجيا محل كل شيء آخر (الفيلسوف الفرنسي آلان دي بينوا يسمي ذلك «الحوكمة»، «الإدارة»).. يشغلُ مكانَ السياسيين الذين يتخذون القرارات التاريخيّة، مديرون وتقنيون يقومون بتحسين الخدمات اللوجستية الإدارية.. كتلة واحدة من الأفراد تساوي كتلاً كاملةً من الناس، لذلك، فإن الواقع ما بعد الليبرالي (بتعبير أدق، الافتراضي، الذي يحل محل الواقع بشكل متزايد) يؤدي مباشرة إلى الإلغاء الكامل للسياسة.
وثمّة من يعترض هنا: إن الليبراليين «يكذبون» عندما يتحدثون عن «نهاية الأيديولوجيات» (كان هذا هو جوهر الجدل الذي خُضتُه مع الفيلسوف أ. زينوفييف) «في حقيقة الأمر»؛ هم يظلون أوفياء لأيديولوجيتهم وينكرون ببساطة حق الوجود لأي أيديولوجية أخرى.. الأمرُ ليس كذلك تماماً.. عندما تصبح الليبرالية، من وجهة نظر أيديولوجيّة، المحتوى الوحيد للوجود الاجتماعي والتكنولوجي الحالي، فإنها لن تعود «أيديولوجيا»، إنها عندئذٍ حقيقة من حقائق الحياة، إنها نظام «موضوعي» للأشياء، ويصبح دحض ذلك ليس صعباً فحسب، بل عبثيّاً.. تنتقل الليبرالية في عصر ما بعد الحداثة، من مجال الموضوع إلى مجال الكائن.. وسيؤدي هذا في المستقبل، إلى الاستبدال الكامل للواقع، بالواقع الافتراضي.
نتصور النظريّة السياسيّة الرابعة كبديل لما بعد الليبراليّة، ولكن ليس كاتجاه أيديولوجي واحد في علاقته باتجاه أيديولوجي آخر، بل كفكرة معارضة من حيث المادة؛ تعارض الواقع القائم، قدر الإمكان؛ كهجوم غير موجود بعد، على ما هو موجود بالفعل.
لا يمكن أن تكون النظريّة السياسيّة الرابعة، خلال ذلك، استمراراً للنظريّة السياسيّة الثانية أو الثالثة.. لم تكن نهاية الفاشيّة، ونهاية الشيوعيّة، مجرد سوء استيعابٍ عرضي، بل كانت تعبيراً عن منطق التاريخ الواضح تماماً.. لقد تحدّتا روح الحداثة (الفاشيّة علانيةً تقريباً، والشيوعيّة بصورةٍ مُحجَّبة – انظر إلى اعتبار الحقبة السوفيتيّة بمنزلة طبعة خاصة «أُخرويّة» للمجتمع التقليدي عند: م. أغورسكي أو س. كارا مورزا ) وخسرتا.
هذا يعني، أن الكفاح ضد التحول ما بعد الحداثي لليبرالية، في شكل ما بعد الحداثة والعولمة يجب أن يكون مختلفاً نوعيّاً، يُبنى على مبادئ جديدة ويقدّم استراتيجياتٍ جديدة.
ومع ذلك، فإن نقطة البداية لهذه الأيديولوجيا – الممكنة، ولكن غير المضمونة، وغير القدرية، وغير المحددة سلفاً، والناشئة عن إرادة الإنسان الحرة، من روحه، وليس من العمليات التاريخية المجهولة – هي بالتحديد رفض (نفي) جوهر ما بعد الحداثة.
ومع ذلك، فإن هذا الجوهر (بالإضافة إلى اكتشاف الخلفية، غير الواضحة سابقاً للحداثة نفسها، التي حققت محتواها تماماً، لدرجة أنها استنفدت إمكانياتها الداخليّة، وتحولت إلى نمط إعادة التدوير المعاكس للمراحل السابقة) شيء جديدٌ تماماً، لم يكن معروفاً من قبل، ولم يتم التنبؤ به إلا بشكل حدسي ومجزّأ في المراحل السابقة من التاريخ الأيديولوجي والصراع الأيديولوجي.
النظرية السياسية الرابعة هي مشروع «حرب صليبية» ضد:
– ما بعد الحداثة،
– المجتمع ما بعد الصناعي،
– الفكرة الليبرالية المحققة في الممارسة،
– العولمة وأسسها اللوجستيّة والتكنولوجيّة.
إذا كانت النظرية السياسية الثالثة قد انتقدت الرأسماليّة من اليمين، والنظريّة الثانية من اليسار، فإنّ المرحلة الجديدة لم تعد تحملُ هذه التضاريس السياسيّة السابقة: وفيما يتعلق بما بعد الليبرالية، فمن المستحيل تحديد أين هو اليمين وأين اليسار.. ثمّة موقفان فحسب – الموافق (المركز) وغير الموافق (المحيط). وكلاهما عولميان.
النظريّة السياسيّة الرابعة هي تركيز في مشروع مشترك واندفاع مشترك، لكل ما تبين أنه أُهملَ أو قُلِبَ أو أُذِلَّ في سياق بناء «مجتمع الفُرجة (العرض، السيرك) « (ما بعد الحداثة). «الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ» (إنجيل مرقس 12: 10). يشير الفيلسوف ألكسندر سيكاتسكي، عن حق، إلى أهمية «الهوامش» لتشكيل عصر فلسفي جديد، مقدماً تعبيرَ «ميتافيزيقيا القمامة» على سبيل الاستعارة.
المعركة على ما بعد الحداثة
تتعامل النظريّةُ السياسيّة الرابعة مع ولادةٍ جديدةٍ لعدوٍ قديم.. إنّها تعارض الليبرالية، مثلها مثل نظريتي الماضي السياسيَّتين: الثانية والثالثة، لكنّها تعارضها في حالتها الجديدة.. تكمن الجِدَّةُ المبدئيّةُ في هذه الحالة، في حقيقة أن الليبرالية فحسب من بين الأيديولوجيّات السياسيّة العظيمة الثلاثة، دافعت عن الحق في وراثة روح الحداثة، وحصلت على الحق في تشكيل «نهاية التاريخ» على أساس مقدماتها.
ويمكن لنهاية التاريخ هذه أن تكون متباينة من الناحية النظرية: «الرايخ الكوكبي» (إذا انتصر النازيون)، «الشيوعية العالمية» (إذا اتَّضح أن الشيوعيين على حق).. ولكن تبيَّن فيما بعد أن «نهاية التاريخ» كانت ليبرالية على وجه التحديد (وهو ما طرحه أوّلاً الفيلسوف أ. كوجيف، ثم أعاد إنتاجه: ف. فوكوياما ). ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن أي استئنافات للحداثة ومتطلباتها الأساسية-التي دعا إليها ممثلو النظريتين السياسيتين: الثانية (إلى حد كبير) والثالثة بدرجة أو بأخرى-تفقد ملاءمتها. لقد خسرَ هؤلاء معركة الحداثة (التي انتصر فيها الليبراليون).. لذلك، يمكن إزالة موضوع الحداثة (وكذلك التحديث، بالمناسبة) من جدول الأعمال.. وتبدأ المعركة من أجل ما بعد الحداثة.
وهنا تنفتح آفاقٌ جديدة أمام النظرية السياسية الرابعة.. فما بعد الحداثة التي تُطبَّقُ اليوم (ما بعد حداثة ما بعد الليبرالية) تلغي بنفسها المنطق الصارم للحداثة – بعد أن تحقَقَ الهدف، تفقدُ مراحلُ الاقترابِ منه أهميَّتها.. يُصبِحُ ضغط البنية الأيديولوجيّة أقل صرامة.. يتم استبدال ديكتاتورية الأفكار بديكتاتورية الأشياء، برموز الوصول (كلمة مرور تسجيل الدخول)، الباركود.. تظهر ثقوب جديدة في نسيج واقع ما بعد الحداثة.
ومثلما حاولت في حينها، النظرية السياسية الثالثة والنظرية السياسية الثانية (التي تُفهم على أنها نسخة أُخرى من التقليديّة) «السيطرةَ على الحداثة»؛ في نضالهما ضد الليبرالية (النظرية السياسيّة الأولى)، فثمةَ اليوم فرصة للقيام بشيء مماثل، مع ما بعد الحداثة، باستخدام «نقاط الضعف الجديدة» هذه بالذات.
لقد طورتِ الليبراليةُ في مواجهة البدائلِ الأيديولوجيّة الصريحة، وسائلَ فعالة لا تشوبها شائبة، قامَ انتصارها على أساسها. لكن هذه الوسائل بالضبط هي ما يحمل أكبر مخاطرة أو مجازفة لليبرالية نفسها.. من الضروري فحسب حساب نقاط الخطر الجديدة للنظام العالمي المعولم، وفك شيفرة رموز الوصول لاقتحام النظام.. المحاولة على الأقل.. فقد أظهرت أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك أن هذا ممكن أيضاً من الناحية التكنولوجية.. إنَّ لدى المجتمع الشبكي ما يقدِّمه حتى لخصومه المخلصين.. على أية حال، من الضروري أولاً وقبل كل شيء، أن نفهم ما بعد الحداثة والوضع الجديد بعمق، بما لا يقل عن فهم ماركس لبنية الرأسماليّة الصناعيّة.
يجب على النظرية السياسية الرابعة، في عصر ما بعد الحداثة، وفي مرحلةِ القضاء على برنامج التنوير، وظهور المجتمع المحاكي، أن تستمد «إلهامها الأسود»، باعتباره حافزاً للمعركة، وليس قدراً مرسوماً.. ومن هنا يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات العمليّة، فيما يتعلق ببنية النظرية السياسية الرابعة.
إعادة مراجعة الماضي وأولئك الذين خسروا
إذا كانت النظريتان السياسيتان الثانية والثالثة، غير مقبولتين كنقاط انطلاق لمعارضة الليبرالية، ولاسيّما فيما يتعلق بكيفية فهمهما لنفسيهما، وما دعتا إليه، وكيف تصرفتا، فلا شيء يمنعنا من إعادة تقييم حقيقة هزيمتهما كشيء إيجابي.. وبما أنّ منطق تاريخ العصر الجديد أدى إلى ما بعد الحداثة، فإنّه يشكل الجوهر السري للعصر الجديد، الذي ينكشف في نهايته فحسب.
عَدَّت النظريتان السياسيتان، الثانية والثالثة نفسيهما مرشحتين منافستين للتعبير عن روح الحداثة.. وقد فشل هذا الادعاء فشلاً ذريعاً.. إنّ كل ما يتعلق بهذه النوايا غير المسوّغة في الأيديولوجيات السابقة – بالنسبة لمبدعي النظرية السياسية الرابعة-أمر لا يثير الاهتمام.. لكن حقيقة خسارة تلك النظريات، يجب أن تؤخذ على محمل الجدارة، أكثر من اعتبارها قصوراً.. مادامت قد خسرت، فقد أثبتت أنها لا تنتمي إلى روح الحداثة، وهذا ما أدّى بدوره إلى أن تكون أساساً لما بعد الليبرالية.. وهو ما يُعدُّ أمراً جيّداً يُحسب لها.. علاوة على ذلك، فالأمر يعني أن ممثلي النظريتين السياسيتين الثانية والثالثة – بوعي أو بغير وعي – وقفوا إلى جانب التقاليد، دون أن يستخلصوا الاستنتاجات الضرورية من ذلك، أو لم يعترفوا بها على الإطلاق.
تحتاج النظريتان السياسيتان الثانية والثالثة إلى إعادة تقييم، مع إبراز ما يجب التخلي عنه، وما له قيمة في حد ذاته.. أما النظر إلى نفسيهما كأيديولوجيتين كاملتين فهذا غير صحيح، إنهما غير صالحتين للاستعمال تماماً – لا نظريّاً ولا عمليّاً، ولكن يمكن لبعض العناصر الهامشية، كقاعدة عامة، تلك التي ما أُدركت من قبل، وتركت على الأطراف، أو في الظل (مرة أخرى، نذكر ب»ميتافيزيقيا القمامة»)، أن تكون ذات قيمة عالية بشكل غير متوقع، ومليئة بالمعنى والحدس.
ولكن على أي حال، فإن النظريتين السياسيتين الثانية والثالثة، تحتاجان إلى إعادة التفكير بهما بطريقة جديدة، ومن مواقع جديدة، وبعد التخلي فقط عن الثقة في البنى الأيديولوجية التي قامت عليها «أرثوذكسيتها».. إن تلك «الأرثوذكسيّة» هي أكثر الأشياء التي لا تهمهما، ولا فائدة منها.. وستكون قراءتهما المتقاطعة أكثر إنتاجية وفعاليّة بكثير: «ماركس من خلال نظرة إيجابية من اليمين» أو «إيفولا من خلال نظرة إيجابية من اليسار»، لكن مثل هذا المشروع «الوطني البلشفي» المثير (بروح أوستريالوف ن .. أو إيرنيست ن.) لا يكفي في حد ذاته، لأن الإضافة الميكانيكيّة للنظريّة السياسيّة الثانية والنظريّة السياسيّة الثالثة، في حد ذاتها، لن تقودنا إلى أي مكان.. بالرجوع إلى الماضي فحسب، يمكننا تحديد المنطقة المشتركة بينهما، تلك التي كانت تعارض بشدة الليبرالية.. هذا المقياس المنهجي مفيد، كإحماء قبل الإعداد الكامل للنظرية السياسية الرابعة.
قراءة مهمة وحاسمة حقًا للنظريات السياسية الثانية والثالثة، ممكنة فقط على أساس النظرية السياسية الرابعة التي بدأت تترسّخ، بحيث يكون الموضوع الرئيسي – على الرغم من رفضه جذرياً كقيمة! – هو ما بعد الحداثة وشروطها: العالم المعولم، (الحوكمة)، مجتمع السوق، عالمية حقوق الإنسان، «الهيمنة الحقيقية على رأس المال»، إلخ.

العدد 1134 – 28-2-2023

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق