الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
في ذاكرتنا الثقافية الكثير من الأدباء والمثقفين موسوعيي المعرفة، وهذا ساعدهم على خوض العديد من المجالات الثقافية بنجاح وتميّز، ومنهم المحامي نجاة قصاب حسن. فإضافة إلى أنه كان محامياً ناجحاً، كان إعلامياً وموسيقياً وشاعراً لا يقل نجاحه فيها عن المحاماة.
وبعيداً عن المحاكم وقضاياها، سخّر نجاة قصاب حسن مهنته لخدمة الناس وتوعيتهم إعلامياً، فقدم عبر إذاعة دمشق برنامجاً في التوعية القانونبة حمل اسم (المواطن والقانون)، بدأ عام 1952 واستمر لمدة خمسة وعشرين عاماً، وكان يجبيب فيه عن أسئلة المواطنين في القضايا القانونية، وكان يوجّههم نحو حلول توافقية بعيداً عن المحاكم وغوص القضايا فيها لسنوات كثيرة.
وبعيداً عن المحاماة خاض نجاة قصاب حسن غمار الصحافة، فساهم مع عدد من الأدباء في إصدار جريدة (عصا الجنة) وكان أحد كتابها، كما كتب زاوية يومية في جريدة (الرأي العام) لصاحبها أحمد عسة، وحملت الزاوية عنوان (بالعربي الفصيح)، وكان يتناول فيها بالنقد الأحداث السياسية والاجتماعية اليومية، وبدأها عام 1952 واستمرت لسنوات عديدة.
وكان نجاة قصاب حسن موسيقياً، فقد كان يجيد العزف على آلتي القانون والعود، وتولى إدارة المعهد الموسيقي الشرقي عام 1950، ونشر العديد من الدراسات الموسيقية، وفي المكتبة الموسيقية لإذاعة دمشق الكثير من الأغاني من كلماته، منها أغنية (الفدائي) تلحين وغناء نجيب السراج ولوحتا رقص السماح (المزاهر) و(أيا مرادي) تلحين عدنان منيني، وقدمتهما فرقة فجر الأندلس. وكنت على معرفة عميقة به، وأجريت معه حواراً حول الموسيقا نشرته في صحيفة الثورة، عندما كنت أحد صحفيي قسمها الثقافي.
وعندما أحدثت وزارة الثقافة عام 1959 تولى نجاة فصاب حسن مدير الفنون فيها (مديرية المسارح والموسيقا الآن) بعد الدكتور صباح قباني، وقام بإحداث فرقة أمية للفنون الشعبية، وتولى إدارتها لعدة سنوات، كما أسهم بتأسيس المسرح القومي ومسرح العرائس.
وفي جانب آخر كان لنجاة قصاب حسن الكثير من المساهمات الثقافية، من ذلك أنه اشترك في وضع سيناريو أول فيلم أنتجته المؤسسة العامة للسينما (سائق الشاحنة) مع السينارست التشيكي (بوشكو فوتشينيتش). وكان يتقن اللغة الفرنسية، وهذا ساعده على ترجمة بعض الآثار الأدبية عن الفرنسية، منها مسرحية (الاستثناء والقاعدة) للكاتب الألماني (برتولت بريشت)، وقدّمها المسرح القومي عام 1961 بإخراج شريف خزندار. كما ترجم مسرحية (مدرسة النساء) للكاتب المسرحي الفرنسي موليير، وقدّمها المسرح العسكري بإخراج ياسر العظمة.
وإتقانه للغة الفرنسية أنقذني مرة من ورطة، ففي عام 1982 كنا نحضر مهرجان تدمر الموسيقي الذي أقامته وزارة السياحة لعدة أيام، وفي أحدها علمت أن هناك محاضرة عن تدمر لعالم آثار فرنسي، وأن المحاضرة بالفرنسية وليست مترجمة إلى العربية، فأصابتني خيبة أمل وإرباك، لأنني صحفي ولن أستطيع الكتابة عنها، وشاهدني الأستاذ نجاة بهذا الارتباك فسألني ما بي، فأخبرته بالأمر، فقال لي: (ألا تقبل أن أعمل لك مترجماً فورياً؟)، فرحبت بالفكرة، وبالفعل جلست بجانبه في الصف الأول، وكان يترجم لي في أذني وأنا أدوّن الترجمة، وبعد عودتي إلى دمشق كتبت مقالة عن المحاضرة في الصفحة الثقافية بالثورة.
وفي المسرح وضع نجاة قصاب عدة مسرحيات، منها مسرحية (الحياة حلم) عام 1970، ومسرحية (الغانية) عام 1971، وأوبريت (وردة) عام 1966، كما وضع العديد من الكتب في مواضيع ثقافية متنوعة، منها (فن العرائس وتحريكها) عام 1963، ومن مؤلفاته المهمة كتاب (الفدائيون العرب امام محكمة زيورخ) عام 1970، ويتضمن دفاعاً قانونياًعن الفدائيين الفلسطينيين الذي قاموا بالعملية الفدائية فيها. ومن كتبه الأخرى(حديث دمشقي)، وهو كتاب في فن السيرة والمذكرات، وصدر عام 1988، و(جيل الشجاعة) عام 1992، و(الحبة والسنبلة) عام 1994، وآخر مؤلفاته كتاب (صانعو الجلاء) عام 1999، وصدر بعد رحيله عام 1997.
وكتب الكثير من الدراسات في مجلة المعرفة منذ بداية صدورها في آذار 1962، منها دراسات (تعميمات في أسس نهضتنا الفنية) في العدد الثاني، و(تأملات في النقد المسرحي) في العدد الثالث، و(برتولد بريخت) في العدد السابع عشر.
وكان للأدب الساخر نصيب وافر من كتابات نجاة قصاب حسن، فقد أصدر مجلة (القزيطة) الشعرية التي كان ينتقد فيها أجواء القصر العدلي بدمشق، كما أصدر مجلة ثانية باسم (القنديل) تتناول بالسخرية عالم الأدب والأدباء، و(القنديل) حمله بعد ذلك اسم مقهى أسسه في دمشق تحت مكتبه في شارع 29 أيار، وكان ملتفى الأدباء والمثقفين. كما ساهم إلى جانب الشاعر سليمان العيسى وغازي أبو عقل في تحرير مجلة (الكلب) التي كان يصدرها الأديب صدقي اسماعيل في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وكان بارعاً في الرسوم الكاريكاتيرية، ورسم بأسلوب كاريكاتيري الكثير من الوجوه الأدبية والاجتماعية، وبعد وفاته أقامت مكتبة الأسد معرضاً لهذه الرسوم ضمن فعاليات معرض الكتاب الخامس عشر 1999.
وفي الجانب الأدبي كان نجاة قصاب حسن شاعراً مجيداً، كتب العديد من القصائد الوطنية والوجدانية والغزلية، لكنه لم يصدرها في ديوان شعري، إلا أن معجم البابطين لشعراء العربية نشر له خمس قصائد، هي (أعطني الدهر)،(كن رفيعاً)،(بيتنا)،(إني حبيسكِ)،(حصالة العمر)، ومما يقوله في قصيدة (حصانة العمر):
فطفتُ أطيبَ مابـي وسغتُ أحلى شرابي
زهـرُ الربيـع لديكـ ن… والربيـعُ ببابـي
والقمحُ نضجُ حزيرا ن ضاحكاً في الرحابِ
وكـرمُ أيلـول فيـه رحـيقُ كـرمٍ مُـذابِ
وكان نجاة قصاب حسن من ظرفاء دمشق، حدثت معه الكثير من الحوادث الطريفة، منها أنه دعا ذات يوم الأديب صدقي اسماعيل إلى الغداء، فقبل صدقي اسماعيل الدعوة بشرط ألا تكون في مطعم القنديل الذي يملكه قصاب حسن، بل اشترط أن تكون الدعوة في مطعم الشموع. وفي الموعد المتفق عليه ذهب صدقي اسماعيل إلى المطعم. أما نجاة قصاب حسن فقد ضرب أخماساً بأسداس، فوجد أن الدعوة ستكلفه (بقرة جحا) فلم يذهب. وتناول صدقي اسماعيل الغداء، ثم طلب ورقة بيضاء من النادل، ونظم عليها قصيدة هجاء في نجاة قصاب حسن، نشرها في جريدته (الكلب)، وجاء فيها:
ذهـبنا للشـموعِ لكـي نراكَ
فكان الكــل فيـه ماعـــداكَ
أتدعــونا وتهـرب ذاك أمـر
غريب ليس يصدر عن سواكَ
لو أن جاحــظ العـينين حـيٌ
لخصّـك بالبلاغـة واصطفاكا
ودبّج صـفحتين عـليك فـوراً
وقلـتُ له ألا ســلمت يداكـا
العدد 1134 – 28-2-2023