الملحق الثقافي – أحلام غانم:
ليس أجمل من الكتابة التي تُحدث لديك نوعاً من الصمت؛ الصمت الذي يعلمك أنّ الكلام في الصفات كالكلام في الذات، ويرفع لديك منسوب التحدّي ،و يشركُكَ في صناعة واقع مضاد، ويشعرُكَ أن الكاتب يكتُبكَ، يفيض عليكَ بما يملأ شغفك في الانكشاف ..
يجعلك تعيش طقوس الكتابة عبر لحظات ساخنة، فائقة الجرأة في التقويض والمغامرة مثل ذاكرة مليئة بالأشباح، وبالمخفي من «المسكوت عنه» حيث يجعلك الأقرب إلى الدخول ضمن لعبة الاعتراف، أو ربّما يدفعك إلى محاولة في صناعة وظائف تمثيلية تُحّض على تعرية الواقع والحدث والتاريخ والأيديولوجيا، ولما هو غائر في القلب.
هكذا كانت الروائية «أنيسة عبود» الإنسانة التي رسمت لنا بخطوط مُنقطة وحروف متحركة وساكنة ملمحاً مهماً عن ذاتها في أدبها الملتزم بقضايا إنسانيتها ،و الحائزة على عدة جوائز،والتي امتازت بقدرتها الفائقة على تطويع الرؤى الفنية والفكرية ، واللغة التي تجري بين يديها وكأنها نبع حُبٍّ رقراقٍ، كالروح لا يفسد ولا يتجزأ ولا يتلاشى .
يُدركُ بالبديهة الوعي الاعتباري للروائية «أنيسة عبود»، الذي ما انفكّت تقدمُ توظيفاً خاصّاً لثقافة الإنسان السوري ببُعدها المُقاوم بالفِطرة، والرافض للغطرسة على أنواعها الاجتماعيّة والوجوديّة والسلطويّة .
« ساحة مريم »
بطريقة فنية متحرّرة من كلّ الأيدولوجيات باتجاه حركية تمثيل الواقع الأسود الأليم التي لبِستْ مجموعة الشخصيات المكوّنة لروايتها الجديدة « ساحة مريم « الصادرة عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب السورية عام 2022( مدونة الحرب ) والتي ظهرت لقارئها بأربع مائةٍ وثمانين صفحة من القطع الكبير، حيث جاءت مقسّمة لأحد عشر فصلاً تراوحت بين الطول والقصر كاشفة عن عتمات الوجود العربيّ والإنسانيّ على حدٍّ سواء. إنها فصولٌ تُراجع بها مفهوم الصراع الأكبرعلى سورية مع ما قرأته وتعلَّمته وسمعته .
الفلسفة الأولى
الرواية بنوعها المتطوّر ،تعدُّ كائناً انطولوجياً ، فإنَّ هذا الكائن هو فضاء إشكالي، فضاء لا يمكن حسمه، بين أن يكون أولا يكون، إنَّ هذا اللاحسم، يضعنا بين الحقيقة واللاحقيقة . هل نعدّه الكون العقلي والموطن الأساس لكلّ حقيقة؟
،ومحمد فقد عينيه وتحول محجرهما إلى حفرتين ،وشفيق فقد ذراعيه .الأنين يملأ الدنيا ويصمّ الآذان «. ص- 279
الشك والارتياب
تهيئ الرواية قارئها منذ العتبة الأولى (العنوان) للدخول في لعبة لغوية يؤثثها التأمل السردي-الفلسفي- الذي يحمل الشك والارتياب؛ معززة القول :إنَّ الحربَ كر وفر ،و الكتابة عمل انقلابي كما صورها نزار قباني ،ولابدّ أن تخرج عن المألوف أمام عمل أدبي بإمكانه قياس فرحنا وحزننا. وكان حتماً أن يكون هذا السؤال مثار الدهشة: كيف تمكنت الأديبة «أنيسة عبود» من تجميع شعوب الأرض أموات وأحياء وأسرهم في «ساحة مريم « وتحويلهم إلى كائنات إسفنجية، تمتصّ العالم والإنسان وأسئلته ورعبه ؟
وتلحُّ على إعادة قراءة الماضي كأحد وسائل السعي إلى فهم ما آلت إليه أمورالعالم بشكل عام وسورية بشكل خاص من حروب ونزاعات مسلّحة دفعت أهل المكان إلى الانتحار أو النزوح أو اللجوء أو التطرّف الديني.
وقد يصور ذلك المقطع الآتي :» عماد أخي الكبير انتسب إلى حزب البعث ، رافضاً الأحزاب الأخرى . لكنّه انقلب فوراً منذ بداية الأحداث في سورية ليتحول في النهاية إلى ( الشيخ عماد)، ولا حقًا صار سيدنا (أبو البراء ) عماد علوان بن يحيى.» ص-71
إن الروائية «عبود « تُغيِّر السؤال وتقلبه قلباً بحيث تصبح « ساحة مريم « هي نقطة ارتكاز الوجود ، بهذا يتَّضح لنا أنّ الإنسان دون استثناء هو جوهر عملها، بصفته نسيجاً من التجارب، والذكريات، والعواطف.
الإرهاب الممنهج
لذلك تضعنا منذ البداية في الموقف الذي ينبغي أن نضع أنفسنا فيه ،وكانت الأقدر على التغلغل بمشاعرنا ومذكّرة القارئ أن لا أحد خارج « ساحة مريم «؛ لأنها أزالت الستار عن مسرح الحياة، كاشفة عورات أمة غارقة في الزيف والنفاق، و معريةً «الإرهاب الممنهج» ضد الشعوب. ومنها إشارة فصيحة تختزل ما كان وسيكون :» هل بدا عصر تحول سلالة من البشر إلى وحوش؟ من هو الأصل ومن هو المزوّر؟» ص- 143
أنطولوجيا الثابت
لأن الروائية على علم كبير بوصف أرسطو للأنطولوجيا بأنها «علم الوجود بما هو موجود» ،تكثّف أنطولوجيا الثابت من نتاجها الروائي حتى الآن نهجاً وفهماً، جاعلةً من قضية الأرض والهوية والكرامة والطموح مجازاً مفتوحاً لشعرية السرد في الرواية العربية السورية بوصفها أداة للمقاومة ،فتعيد تشكيل الصورة وتعبّر عما استعصى علينا فهمه لتؤكد مقولة : «أن المتن الروائي ذو بعد كوني، وموضوعه هو الوجود الإنساني، والوجود كما يرى كونديرا لا يعني الواقع، لأن الوجود ليس هو ما وقع، بل الوجود هو حقل الإمكانات الإنسانية هو كل ما يمكن أن يصيره الإنسان20»
التشكيل الروائي
لا تؤسس الراوية روايتها وفق رؤية أحادية، أو صوت وحيد، لأن موضوعية التفاصيل جعلت التشكيل الروائي وطيد الصلة بالعالم، وفي كلّ فصول الرواية الحبّ يعيد نسج علاقاته بالذوات والعالم وفق منظور هيرميونيطيقي يخرج عن سلطة الحبّ بالمعنى الإيروسي، ليرتبط بالتوتر، وتجاذب العلاقة بين الذات والعالم، ويحمل هاجس الخطيئة والمفارقة والإحساس باللاجدوى.
لذلك ،القراءةُ في رواية «ساحة مريم «، لن تبتعد عن ثيمة العمل الإبداعي، بل قد تكون فيها وحولها ،إذ للرواية أبعاد ملحمّية، و تتحدث عن قضية عالمية في غاية الأهمية تخص كلّ إنسان في كل زمان ومكان، لأنها تتناول قضية كونية وهي ظاهرة الإرهاب، كونه ظاهرة عالمية لا يمكن فصلها بين شمال وجنوب أو بين شرق وغرب، وقبل أن تكون قضية وطن ،هي قضية الحرية والعدالة لذلك تتساءل : « كل ذلك من أجل الحرية ؟
«هل الحرية علبة عطر نشتريها من اوروبا فحسب ؟» ص-122
ويعود السؤال بسرّ الحسرة :» لماذا نولد في القهر ويولد آخرون في القصور ؟ أين العدالة من كلّ الذي يجري ؟» ص-362
البطل المأساوي
والشخصية الرئيسة ( حسن) موجعة إلى حدّ الخوف، لها ذاكرة مُتخمة بالأحداث والوقائع ، وبرز في المشهد الراوي الداخلي أو»البطل المأساوي»، والذي حاول من خلاله الولوج للعمق الإنساني بوجهه الكالح الحقيقي، برغم كلّ التلوين الحاصل على المشهد المرئي إلا أن المأساة تشكّلت بفعل التجاذبات المستمرة في حياة البطل.
الراوي المتواتر
فنجد حسن الكابتن المدني ابن الأب الحموي والأم المسيحية والجندي الناجي من تفجير مطار الطبقة في الرقة والزاحف في متاهة الصحراء البطل /الراوي المتواتر، من أكبر عوامل الجذب وإنجاح التلقي في هذه الرواية، فهو الحاضر في كلّ حدث ومشهد، وهو الذي يعبث بدرامية الحدث ويسبر أغوار الزمان والمكان، وينقل اللفتة الخفية والتساؤلات الكبرى والتفاصيل الأشد زخماً، وعليه يمكن القول:
اتسمت شخصيةُ «حسن» بهالة فائقـة ، لا يســتطيع المتلقي اختراقها ، لكنّه يسـتطيع تأسيس جدليـة تأويلية عليها ، وتميّزتْ على غيرها من الشخصيات الرئيسة، بخصائص أهَّلتْها إلى أن تكون شخصيةً محورية، متصلةٌ بها الأحداث والأفكار ومصائر الشخصياتِ الرئيسة، بتفاوتٍ نسبي من شخصيةٍ إلى أخرى.
كان الحبّ أيقونةَ اتصالِ هذه الشخصية الفاعل في حياة ومصير الشخصيتين: شام وسلمى. وكانت صلة القرابة هي آصرة اتصال الشخصية بحياة مريم بشكلٍ غير فاعلٍ في جوهرية مصيرها.
على تخوم الحقيقة
« ساحة مريم « ليست رواية لتزكية الوقت. ولا المتعة. ولا للتثقيف حتى. إنها عمل ملحمي تهدف من ورائه الى رتق ثوب التاريخ كثير الثقوب.
الحقيقة التي تقولها ضفائر من الأسرار، والسر الذي تسرده حقائق متناثرة مشتّتة تحنّ إلى قميص ذاكرتها، والقراءة الصبورة الجسورة هي المالكة رباط تلك الذاكرة.
تعيد «ساحة مريم» إحياء تاريخ مهمل بالكاد نعرف عنه شيئًا، وفي الوقت ذاته تقول :إن الاستعمار يحمل الكثير من الوجوه، فالتواطؤ والسكوت هو أيضاً أحد أشكاله أو ما رسخ لوجوده بسورية.
على الرغم من أن الكاتبة قد منحت كلّ شخصية الحرية التامة للبوح عما يمور في داخلها من مشاعر وأفكار، إذ تكشف عن حضور للصوت الآخر المغيب كذاكرة مضادة للنسيان، حيث صوت المنتصر في كلّ وقت يدون ما يناسب أيدولوجيته ومصالحه بما يخالف حقيقة الأشياء لما فيه من تغييب للإرث الثقافي.
وأيضاً المتأمل في بنية الرواية يكتشف أنها لا تتكئ على الراوي العليم الذي يقوم بالإخبار عن الوقائع والأفعال الحادثة على رقعة السّرد اتكاءً كلياً، لكنّ هذا الراوي – أحياناً – يتجلى في الرواية بوضوح، فيعرِّف بالشخصيات، ويكشف عن تصرفاتها، فيسرد بجلاء بعض أحداث الرواية معلقاً وواصفاً آلام جبل سنجار في العراق وحال حزن الفتاة «نوران « التي تدرس في دمشق، والعائدة من السفر، يقول الراوي العليم: « عيب يا نوران .أنت في بلدك . كنت أود أن أضمها وأمسح شعرها وأخفف حزنها، بكت وهمست : أبكي دمشق وبغداد والأحباب وليالي الشام .» ص-161
وهذا التداخل بين الأصوات والراوي خلال الرواية لم يكن محض مصادفة، بل يبدو أنه متعمد من قبل المؤلفة؛ لشد انتباه المتلقي لما يجرى في ساحة مريم، والكشف عن معالم إحدى شخصيات الرواية؛ اظهاراً لقدرتها الإبداعية في صياغة عالمه.
العدد 1137 – 21/3/2023