أديب مخزوم:
تمت تسمية المركز التربوي للفنون التشكيلية بمنطقة ركن الدين، باسم الفنان التشكيلي السوري الكبير الراحل عمر حمدي ـ مالفا (1951 ـ 2015) وجاء هذا التكريم ضمن الخطوات التي اتخذتها وزارة التربية، وكرمت من خلالها مجموعة من الفنانين والفنانات والباحثين الراحلين، بإطلاق أسمائهم على المراكز التربوية للفنون في دمشق، انطلاقاً من عبارة تقول: بأن الأزمات تعزز دور الفن في إعادة بناء الإنسان القادر على مواجهة التحديات والصعاب.
وأعمال الراحل الكبير، التي أنجزها في الإقامة والاغتراب، على مدى نصف قرن، تحمل القدرة المطلقة على الاستمرار والتجدد مع الأجيال الفنية المتعاقبة، ولقد تميز منذ طفولته وفتوته في ريف الحسكة، بمرونة موهبته الفذة في التكوين والتلوين معاً، على ترويض وتكييف وتوليف العناصر التشكيلية وغنائية اللون المحلي، الذي يشع في لوحاته كبريق ضوئي مقطوف من نورانية ألوان الشرق .. فالألوان الطبيعية المرئية (المحصورة ما بين النهاية البنفسجية والنهاية الحمراء) التي يظهرها الموشور أو كما تظهر في لحظات تكشف فيها الطبيعة عن سخائها على شكل القوس المذهل من الألوان التي نسميها قوس قزح، هاجس الفنان الأول، وما نسيج اللوحة إلا من نسيجها ( خاصة في لوحاته الإنطباعية ) .. لذا فإن هناك اتجاهاً لازدياد درجة الوحدة اللونية إذا ما ابتعدنا من النهاية الحمراء إلى النهاية البنفسجية في الطيف الضوئي، نظراً لأن الخطوط الدنيا تقترب من النهاية الحمراء (هذا مبدأ أساسي في الطبيعة) فالمناخات اللونية التي تقترب من النهاية البنفسجية هي دوماً أعلى طاقة من تلك التي تقترب من النهاية الحمراء والعكس بالعكس.
و كان في كل إطلالة فنية، يكشف عن تحولات جديدة في بنية النص التشكيلي، تحولات تتوالد من سياق الطروحات الفنية الحديثة التي تظهر بعض الانحياز أو العودة إلى الواقعية التصويرية الجديدة ( وجوه واقعية أو تعبيرية على خلفية لونية تجريدية ) مع انحياز واضح كما أشرت نحو الحركة والوهج وإيماءات الإيقاع الغنائي للونية المحلية المرئية بالإحساس، أي بالعين الداخلية.
المدهش في فن عمر حمدي يكمن في أنه كان قادراً في كل مرة، بالعودة إلى ينابيع ذاكرته الطفولية، فقد لازمته الوجوه القروية منذ معرضه الأول، حتى معرضه الأخير في آرت هاوس، ربما لأنه كان يؤمن منذ البداية أن الوصول إلى العالمية، يعني البحث والتنقيب عن خصوصيات التراث الحضاري والفولكلوري، والبقاء في إطار اللون المحلي الغني بالأضواء والأنوار الباهرة.
وفي معرضه الدمشقي الأخير وجد المشاهد ما طاب له من ثمار تجربته، وما عصف بها من تغيرات وتبدلات وانقلابات مفتوحة على توجهات وتداخلات ثقافة فنون العصر، وفي هذه التساؤلات عودة للاعتراف الفعلي باستمرارية بحوثه الواقعية والانطباعية والتعبيرية والتجريدية بعفويتها الفطرية والمطلقة أحياناً.
ويمكن تفهم الطراوة الفطرية الموجودة في الفنون البدائية، والتي عادت إلى الظهور في بعض لوحاته، مع بروز لوحات أخرى لوجوه قادمة من معطيات ذاكرته البصرية .. وفي تأويلاتنا المطروحة عودة للاعتراف الفعلي بالواقعية الجديدة، التي تتداخل في بعض لوحاته مع المظاهر اللونية الغنائية في أعلى درجات صخبها وقوتها وبريقها الضوئي وصولاً إلى الانطفاء التعبيري البدائي المفقود في مدن المجتمعات الصناعية.
وإذا كان التجريد اللوني المتقشف الذي قدمه في بعض لوحاته الأخيرة يشير إلى ضياع الذكريات في المدن الاستهلاكية، فإنه من جهة أخرى معاكسة عمل في لوحات أخرى على تثبيت دعائم فنه المنطلق في كل مراحله وتحولاته وانقلاباته التشكيلية من مؤثرات أضواء وأنوار وألوان الواقع المحلي المترسخ في ذاكرته منذ طفولته وفتوته.
وهذا الاقتراب من أجواء البريق اللوني البيئوي جعل فنه يوازن ما بين تداعيات اللون الشرقي وتأثيرات اللون الأوروبي في مرحلته الانطباعية حين جسد سحر الطبيعة النمساوية، وليعلن بعد استيعابه لجوهر التشكيل الانطباعي، الذي مارسه في الهواء الطلق، عن صراع حاد في داخله بين الاتجاه الانطباعي والتيار التجريدي، الشيء الذي غذا قناعته بضرورة البحث عن جذوره التجريدية التي تتلاءم مع تطلعات الحداثة التشكيلية الأوروبية.
ويذكر أن أسلوب بداياته ترك تأثيره الواضح على مجموعة كبيرة من الفنانين، الذين دهشوا بطريقته في الرسم والتلوين وقدرته على تجسيد العناصر والأشياء بحيوية ومهارة قل نظيرها بين الفنانين في الشرق العربي على أقل تحديد .