أ.د. عبدالله المجيدل:
عادة ما تستذكر الشعوب مآثر رجالاتها في أثناء احتفائها بذكرى الأيام الوطنية لبلدانها، والتي ترتبط غالباً في اليوم الذي تُطهر فيه ترابها من دنس الاستعمار البغيض، لتشكل تلك الأيام موقفاً تربوياً في البناء القيمي للناشئة على المواطنة وحب الوطن والذود عن حياضه، وما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة التركيز على بناء المواطن من خلال استذكار الصفحات المشرقة التي سطرها الأجداد في تحقيقهم لوحدة أرض سورية وشعبها، والتي باتت للأسف في واقعنا الراهن مطلباً يتردد سماعه في كل محفل دولي، ما يجعلنا نستلهم رؤية الأجداد بروحهم المفعمة بالوطنية والتضحية، والإباء، والترفع عن كل انتماء، مقابل الانتماء لكل ذرة تراب من هذا الوطن.
ومع أن مقاومة أهلنا في الجزيرة لم تكن غائبة عن المشهد السوري، إلا أنها مازالت حاضرة في وجدان أبناء الجزيرة وضمائرهم، إذ تشغل حيزاً من التراث الشفاهي لأبنائها، يتناقله الأحفاد عن الأجداد، ولم يكن أبناء سورية في الجزيرة بمعزل عما يجري من مقاومة للمستعمر على امتداد أرض الوطن، إذ تحفل المرويات بعدد كبير من الحوادث الفردية التي واجه فيها أبناء الجزيرة في غير مرة قوات المستعمر، ولكننا سنتوقف في هذه المقالة عند معركتين مهمتين في تاريخ مقاومة المستعمر الفرنسي، هما معركة “بياندور” ومعركة السبع والأربعين، وما تمكنا من جمعه من معلومات عن أحد رواد الجلاء في الجزيرة السورية المجاهد الشيخ الشهيد حماد بك السلطان.
– معركة بياندور..
بياندور قرية تقع على كتف تلة إلى الشرق من مدينة القامشلي بنحو 30 كم، وهي مأهولة منذ زمن بعيد، وبحسب دفاتر ضرائب الاستعمار العثماني لعام 1564 دفع سكانها الضرائب عن تلك السنة.
تحركت في الثالث من أيار لعام 1923 قوة فرنسية مؤلفة من 300 عنصر من مدينة الحسكة بقيادة الضابط “روبيرتو” واستقرت في بياندور، وشأنها شأن أي قوة محتلة، إذ بدأت بظلم الأهالي والتنكيل بهم، واعتراض النساء العائدات من بئر الماء، فتمكن بعض الأهالي من اغتيال القائم مقام المعين من قبل الضابط روبيرتو، وعند قدوم المحقق الفرنسي “جيرنكو” من الحسكة للتحقيق في الحادثة، قام بتعذيب الأهالي واستشهد بعضهم في أثناء عملية التحقيق.
إثر ذلك كُلف الجنرال “روغان” بإخضاع القبائل المنتشرة فيما بين القامشلي غرباً، والحدود العراقية والتركية شرقاً، وما بين الحدود التركية شمالاً وسفوح جبل سنجار جنوباً، والعمل على تأديب القبائل والتنكيل بها.
وقد سلك هو الآخر سلوكاً تعسفياً متغطرساً مشيناً في تعامله مع الأهالي، فتذمر أبناء القبائل العربية والكردية وحقدوا عليه وبدأوا يعدون العدة لمهاجمة الحامية، ومن الأسباب الرئيسة لتلك المعركة رفض السكان من عرب وكرد الانتداب الفرنسي على سورية إذ رأوا فيه احتلالاً واستعماراً بغيضاً، وفي السادس والعشرين من تموز 1923 تحركت قوة فرنسية من حامية بياندور بقيادة “روبيرتو” و”روغان” شرقاً باتجاه عين ديوار الواقعة بالقرب من نهر دجلة؛ لاستطلاع الحدود وترسيمها، وبقي في الحامية ما يقرب من تسعين عنصراً وعلى رأسهم الضابط “موريل”، استغل الثوار الموقف وهاجموا الحامية في ليلة 28 تموز 1923 إذ وصل رجال القبائل إلى المعسكر قبيل الغروب، فقتلوا من قاومهم، وأسروا من استسلم وقاموا بإحراق المعسكر.
ثمَّ انطلقوا ليلاً إلى نهر الجراح الذي يقع إلى الشرق من بياندور وتمترسوا بقصبه وجروفه؛ لمواجهة القسم المتبقي من جيش روكان، الذي علم من بعض جنده الفارين من المعركة بالهجوم على المعسكر، فكر عائداً لنجدة جنوده، وعندما اقترب من نهر الجراح شاهد بالمنظار ما حلَّ بمعسكره، وكانت النيران مازالت مشتعلة فيه، وقام بعض المتقدمين من الثوار بمناوشته، فنصحه المترجم أن يستسلم حفاظاً على حياته وحياة من معه من الجنود؛ لأن الثوار مسلمون ومن عاداتهم ألا يقتلوا من يستسلم.
فأبت عنجهيته الاستسلام وصاح بجنوده إنها الحرب وسنبيدهم (هذا ما رواه المترجم الذي فرَّ من المعركة واستسلم)، وبدأت رشاشاته (المطرلوز، كما يسمونها) تصلي الثوار بوابل من الرصاص الكثيف، ولكن الثوار كانوا متحصنين بجروف النهر، إلى أن خفّ وابل الرصاص قليلاً (تناخى) الثوار وانقضوا على العسكر الفرنسي واشتبكوا معهم إلى أن كُتب لهم النصر، وتمكنوا من قتل الجنرال روغان وعددٍ من ضباطه وجنوده، وأسرّوا من استسلم منهم، وفرَّ مساعده روبيرتو باتجاه جزيرة بوطان، بعد أن سقط عدد ليس بالقليل من الثوار شهداء في أرض المعركة.
وهكذا امتزجت دماء السوريين عرباً وأكراداً في الدفاع عن وطنهم وشرفهم، وانتهت المعركة حوالي التاسعة مساء، وانسحب من تبقى من قوات الفرنسيين إلى الحسكة إلى غير رجعة، وكان عدد القتلى من الفرنسيين يربو على 60 قتيلاً، وبعد ثلاثة أيام قدمت إلى المنطقة حوامة فرنسية، وبعد مفاوضات مع الثوار لاستلام جثامين قتلاهم، نقلت الحوامة جثامين الجنود الفرنسيين دون المرتزقة الذين قام الأهالي بدفنهم، وكان معظمهم من أصول أفريقية بحسب شهود عيان استنتاجاً من لون بشرتهم، وأفاد بعض شهود العيان بأن شقيقة الجنرال روغان حضرت على متن الحوامة لمرافقة جثمانه.
أما معركة “السبع والأربعين” فقد أشار الدكتور محمد الوادي نقلاً عن بعض الروايات: بأن قامت القوات الفرنسية المتمركزة في الحسكة، بإرسال سرية ما يسمى بحرس الحدود في جيش الانتداب الفرنسي إلى الجنوب؛ لتأديب القبائل في منطقة الشدادي وما حولها، وذلك بعد أن كثرت الهجمات على الدوريات الفرنسية في تلك المنطقة، وكان سلاح تلك السرية البنادق والرشاشات وبعض المدافع الرشاشة.
وكانت القوة الفرنسية عندما تقترب من مضارب بعض القبائل تصليها بوابل من الرصاص، فيستشهد بعضهم ويفر الباقون من أمام تلك القوة لعدم قدرتهم على مجابهتها.
اجتمع وجهاء قبائل الجبور والعقيدات والبكارة، وقرروا التحالف والتصدي بما لديهم من إمكانات للقوة الفرنسية.
وكانت تلك القوات قد تمركزت على بعد ٤٧ كم جنوب الحسكة على طريق دير الزور، فزحف الثوار الذين يملكون البنادق من هذه القبائل ليلاً إلى معسكر القوات الفرنسية، وطوقوها من جميع الاتجاهات، وانهالوا برصاص بنادقهم عليها، ويقال إن قائد القوة كان يخابر القيادة طالباً النجدة قائلاً: أنه على بعد ٤٧ كم جنوب الحسكة (وسمي هذا الموقع فيما بعد باسم السبع والأربعين)، وفي الصباح استطاع الثوار من رجال القبائل محاصرة الفرنسيين تماماً، إذ تحصن بعضهم على بعد عدة كيلومترات شمال منطقة الحصار، وهم من القبائل العربية وفي مقدمتها أبناء قبيلة الجبور لصد أي نجدة تقدم لفك الحصار.
ونجح الثوار في صد النجدة القادمة من الحسكة، واستمر الحصار لعدة أيام قتل فيها معظم أفراد السرية، ولم يُفَك الحصار إلا بعد وصول نجدة كبيرة قادمة من دير الزور، فلاحقت هذه النجدة القبائل التي اتجهت غرباً في الصحراء باتجاه جبل عبد العزيز، ولمخاوف الفرنسيين من التوغل في تلك المناطق قاموا بنصب مدافع بعيدة المدى على بعد ٣٠ كم غربي الشدادي؛ لقصف القبائل التي تقترب من المكان، وهذا الموقع سمي فيما بعد باسم (أم مدفع)، يذكر بعضهم أن معركة ال٤٧ حدثت بين عامي ١٩٣٠ و١٩٣٥ ولم أجد من يحدد التاريخ الدقيق لهذه المعركة.
وتجنبت ذكر أسماء المشاركين في هاتين المعركتين، فهناك روايات كثيرة، ولا أرغب بتجاوز أسماء بعض من شاركوا وأسماء الشهداء، إذ كانوا بالمئات ويصعب حصر أسماء جميع من شاركوا أو من استشهدوا، ومن جهة أخرى، فقد انتفض أهلنا ضد المستعمر لا طلباً لثناء، أو طمعاً في شكر أو تكريم، إنما قاموا بما هو واجب نحو الوطن، والعبرة الثانية من تلك المواقف هي في تكاتف جميع الأهالي في الدفاع عن تراب الوطن وشرفه، دون أن يخطر ببالهم أي من المصطلحات البغيضة الطارئة والتي يتشدق بها، للأسف، بعض المثقفين في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، من مصطلحات من مثل “أقليات ومكونات الشعب السوري” لا بل إن البعض يحاول أن يصطاد بالماء العكر فيقول هذا المكون الكريم، إذ يضيف كلمة الكريم ظناً منه أنه تكريم، وهو في الحقيقة انتقاص، فالكرامة الحقيقية هي في الانتماء للكل الذي يتجسد بالقيم الوطنية، وبكل ذرة تراب لهذا الوطن من طبرية إلى دجلة، نحن شعب واحد ومكون واحد، ومصطلحا أقلية وأكثرية للأسف يحيلانا إلى مرحلة ما قبل الدولة، فليس على وجه الأرض أمة أكثر تنوعاً من المجتمع الأمريكي، ومع ذلك لم نسمع بمصطلح مكونات الشعب الأمريكي، بل نسمع الشعب الأمريكي والمجتمع الأمريكي، فقد كان أجدادنا أكثر وعياً، إذ بايع أهلنا بالجزيرة قادة الثورة السورية سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي، دون أن يخطر ببالهم الأمراض التي نلحظ بعض تجلياتها اليوم في استخدام مصطلحات غاية في الخطورة، على الرغم من التنوير والتعليم السائد حالياً، والذي لم يكن آنذاك، ولعلني أجد أن هذا هو الدرس الذي ينبغي التعلم منه والاقتداء به، وأما تفاصيل المعارك ضد المستعمر فليست ذات أهمية؛ لأنها أقل الواجب الذي لا يتأخر أي مواطن في أي من بلدان العالم في تقديمه دفاعاً عن تراب وطنه، عندما تدنسه أقدام المستعمر.
وفي رحلة البحث عن مرويات أهالي الجزيرة لمآثر رجالاتها، التي لم توثق للأسف بروايات مكتوبة، بل بقيت في صدور من عايشوا تلك الفترة الزمنية، وتناقلتها الأجيال بوصفها جزءاً من التاريخ الشفاهي للجزيرة السورية، إذ زودني الأخ دحام السلطان الذي أتوجه له بالشكر والامتنان على ما وثَّقه بجهد شخصي عن المجاهد الشيخ الشهيد حماد بك السلطان، ولعلنا نستطيع في كل عام أن نسلط الضوء على مجاهد أو أكثر من مجاهدي تلك الحقبة، إذ يروي الأستاذ السلطان أن المجاهد الشيخ الثائر الشهيد محمد بك السلطان أو حماد بك، وهو الاسم الذي عرف به بين أقرانه وأفراد قبيلته، والملقّب بينهم بـ “ذيب السرايا”،أعطى أنموذجاً أصيلاً لأبناء الجزيرة السوريّة، في جميع المواقع التي تقلّدها بين عامي ١٨٩٨ – ١٩١٩ بعد أن تخرّج في الكليّة العسكرية التي افتتحها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لرؤساء القبائل والذوات في الآستانة بين عامي ١٨٩٣ – ١٨٩٦، وهي الكليّة نفسها التي تخرّج فيها معظم الأحرار الوطنيين من أمثال: وزير الحربية الشهيد يوسف العظمة، ورضا الركابي ورمضان باشا الشلاش وسواهم، وبعد إنهاء دراسته في الآستانةُ عُيَّن متصرّفاً في معظم الولايات العربيّة آنذاك والخاضعة لنفوذ السلطنة العثمانيّة، في أقضية “الزور، وجرميك، والجزيرة العليا، وموطلي، وجباقجور، وعقره، والقطيف، والقرنة، والسماوة، والحي، والحلة، وعانة ، وصاصون، وجزيرة ابن عمرو”، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى وبعد رحيل الأتراك عن البلاد، أصبح نائباً للجزيرة العليا في المجلس النيابي “نواة مجلس الشعب السوري” اليوم، حتى عام ١٩٢٧ وهو أوّل نائب عن الجزيرة السورية في المجلس، وقدّم خلال عمله في تلك المواقع والمهام التي تقلدها صوراً مشرقة جسَّد فيها الانتماء الوطني والقومي، فهو الذي رفض المغريات التي قدّمها له أدميرال الأسطول البريطاني في أثناء فترة حكمه في قضاء القطيف؛ لتسهيل مهمّة احتلال الإنكليز لمنطقة الخليج العربي، وقيامه بفض النزاعات التي كانت تحصل بين القبائل العربيّة في نجد والحجاز، ومشاركته في الحملة العسكرية التي دعا إليها جميل بك المدفعي، للمشاركة بثورة رشيد عالي الكيلاني المعروفة “بثورة العشرين” ضد الاحتلال البريطاني في العراق مع أخوته الشيخ علي والشيخ ميزر والشيخ دحام السلطان وابن عمهم الشيخ مسلط الصالح، كما أسهم في تأليب القبائل والعشائر العربيّة والكرديّة ضد الاحتلال البريطاني في العراق، على الرغم من أنّه قد تلقى يومها تهديداً مباشراً من حاكم الموصل السياسي الكولونيل البريطاني “تولدر” بالكتاب رقم ١١٢ / ٥ بتاريخ ١ تموز ١٩٢٠، والذي ينذره مضمونه بالضرب بشدة بواسطة الطائرات والبطش به إن داوم على تحريض القبائل ضدهم.
أما في فترة الاحتلال الفرنسي للجزيرة وموقف الشيخ السلطان منها، فبعد أن دخلت القوات الفرنسية إلى الجزيرة السوريّة في العام ١٩٢١ بقيادة ضابط الاستخبارات الفرنسية المستشار “تريه”، تسارع الحراك الثوري ضده على كامل رقعة المحافظة ليكون على رأس الوطنيين الشرفاء من أبناء المحافظة، وفي هذه الأثناء كانت السلطات الفرنسية قد نفت عدداً من الزعامات الوطنيّة إلى منطقة الجزيرة من أمثال “سعد الله الجابري، وشكري القوتلي، ونجيب الريّس، وسلطان باشا الأطرش، وحسني البرازي، والشراباتي..” وغيرهم، وكان الوحيد الذي يلتقي بتلك الزعامات سرّاً عن عيون الفرنسيين، وفي الوقت نفسه كانت السلطات الفرنسية تخشى الاصطدام معه لما لقبيلته من ثقل جغرافي وبشري في المنطقة، وهي التي تمتدُّ على رقعة كبيرة مترامية الأطراف ما بين سورية والعراق من جهة، وبوصفه الشقيق الأصغر لرئيسها العام “الشيخ علي السلطان ١٨٦٠ – ١٩٦٦”، وللتاريخ الوطني الذي عُرِف به في جميع الولايات العربيّة التي حكمها، ولاسيما في العراق والخليج العربي، وتأسس على إثر ذلك الحزب الوطنيّ في الجزيرة كأول تيار فكري وسياسي يدعو إلى المقاومة وطلب الحريّة والاستقلال والذي عُرِف بداية باسم “جماعة القمصان الحديديّة” النواة الأولى للحزب الوطني فيما بعد في الجزيرة، لتبادلهم سلطات الاحتلال الفرنسي وتقوم بتشكيل تنظيم معاكس يضم بعض الفئات الموالية لها عُرِفَ باسم “الشارة البيضاء” التي أقدمت آنذاك على عمل جبان تمثّل باختطاف محافظ الحسكة السيد “توفيق شامية”، وفي محاولة فصل الجزيرة والفرات عن سورية عام ١٩٢٧ التي أرادت بها فرنسا ضرب وحدة البلاد بفصل الجزيرة والفرات عن الوطن الأم سورية، إذ دعت إلى اجتماع رؤساء القبائل والعشائر في الجزيرة ونواب عن دير الزور وعن الجزيرة في مدينة دير الزور عام ١٩٢٧، وفي أثناء الاجتماع طرح مفوّض المندوب السامي الفرنسي هذه الفكرة فلاقت معارضة شديدة من نائب الجزيرة العليا الشيخ المجاهد حماد بك السلطان الذي قام بتفشيل الاجتماع، وإجهاض آمال الفرنسيين، وعندها فرضت سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية عليه لمدة ٢٢ يوماً، وحلَّت المجلس النيابي والمجلس التنفيذي الذين كان عضواً فيهما، وأجرت انتخابات صورية جديدة، وقامت بإبعاده وأبعاد كل الوطنيين الشرفاء واستبدلتهم بأشخاص موالين لها، وفي الوقت نفسه اتخذت قراراً بتصفيته، وخططت لذلك بذكاءِ غادر، وبعد فترة الإقامة الجبرية التي فُرِضت بحقه، لم تخمد جذوة النضال في صدره، بل زادته تصميماً على حرية الوطن، قبل أن يأتي العام ١٩٣٣ حين تعرّض المجاهد حماد بك لوعكة صحية ألزمته الفراش، وهنا وجدت السلطات الفرنسية الفرصة سانحة للتخلص منه فقامت بإرسال طبيب الجيش الفرنسي للتخلّص منه، فقام الطبيب بحقنه بإبرة سامة قاتلة، فتمكنت هنا فرنسا من إسكات ضمير هذا المناضل، وإخفاء سر موته، ولكن قتل طبيب جيشها الذي قامت بتصفيته مع كامل أسرته على أيدي عدد من جنود مرتزقتها السنغاليين، يكشف رغبتهم بطمس الحقيقة بالتخلص من الشاهد على الجريمة، ووري المجاهد الثرى من منزله في حارة البيك بمدينة الحسكة “شارع فلسطين، وشارع يوسف العظمة حالياً”، كما ورد عن مذكرات نجله الملازم ثان زهدي بك الذي تابع النضال مع أبناء وطنه الغيارى حتى تحقق الجلاء وبقي الوطن وولت فرنسا إلى غير رجعة.
وبالعودة إلى عام 1945حين قدوم وفد الحكومة الوطنية إلى مدينة دير الزور والمتمثّل بقائد الكتلة الوطنية في البلاد التي قادت عملية تحرير سورية ورئيس الحكومة آنذاك المناضل الوطني سعد الله الجابري الذي يعد واحداً من أهم زعماء النضال ضد المستعمر، وبرفقته صبري العسلي وزير الداخلية وإبراهيم حسن قصار قائد قوات الدرك العام الذي استدعى المجاهد الملازم ثان زهدي بك السلطان “1988 – 1899” الذي يعد واحد من المناضلين الوطنيين، قالوا له: نطلب منك تأمين الحسكة وتطبيق النظام فيها لتحقيق الجلاء واستكمال إنجازه وتحقيقه في باقي مناطق البلاد، أطلب ما تحتاجه من القوات قبل أن تنطلق من هنا إلى الحسكة، وهذه الكتيبة التي يرأسها الملازم حسن خيّر ستكون تحت إمرتك، فقام السلطان بطلب قوة احتياطية من القوات الوطنية المتواجدة في دير الزور ومن أبناء جبل العرب تحديداً، وسار على رأس القوات، وحين دخوله بلدة السبع وأربعين الواقعة بين مدينتي الحسكة والشدادي علم أهل الحسكة بقدوم قوة وطنية إليهم، ولدى دخوله المدينة من الجهة الجنوبية كانت هناك ميليشيا فرنسية مرابطة عند “جسر حي غويران” الحالي فلما رآه أفرادها على رأس القوة العسكرية لاذوا بالفرار، ودخل السلطان وقواته دار السراي “مبنى المحافظة الحالي” وقام بإنزال العلم الفرنسي ورفع العلم السوري على ظهر دارها، وأطلق سراح المعتقلين لدى سلطات الاحتلال الفرنسي، وأبرق إلى وفد الحكومة الوطنية في دير الزور ليعلمهم بكل ما حصل معه، والتي لم تتوان عن الحضور إلى الحسكة للاحتفال مع أهلها بفرحة جلاء الاحتلال الفرنسي وسط مهرجان احتفالي كبير، وسُمّيّ السلطان قائداً عسكرياً عاماً للجزيرة السورية، وولى الفرنسيون عن بلادنا وفي أثناء انسحابهم أرادوا تدمير الجسور وبعض المواقع الحيوية في المدينة، لكن السلطان فوّت عليهم هذه الفرصة، بعد أن وضع كامل قواته العسكرية من الجيش، والدرك، والمتطوعين من أبناء القبائل والعشائر في المنطقة في حماية المدينة وممتلكاتها، كما طلب من جميع أبناء المدينة الالتحاق بالقوة العسكرية الوطنية، واتخاذ أعلى درجات الجاهزية لحماية المدينة من المحتلين المندحرين الذين ولّوا عن أرض الوطن إلى غير رجعة فكان النصر وكان الجلاء.
وفي توثيقنا لهذه السطور اعتمدنا على ما استند إليه الأستاذ دحام السلطان من وثائق موجودة لديه، ورواية المجاهد زهدي بيك السلطان، ومن خلال لقاء إذاعي في عام ١٩٨١، أي قبل وفاة الشيخ المجاهد زهدي بيك السلطان بثمانية أعوام.
* أستاذ في جامعة دمشق – كلية التربية