الثورة – حوار: لميس علي:
لم أكن أعلم، لحظة اجتزت تلك العتبة، أني أدخل (منجم جمال)..
ليس بالمعنى الظاهري أو البصري فقط، بل على مستويات أخرى تشتمل الإنساني والروحي.. الأبرز لدى صاحب هذا المنجم..
في (منجم جماله) يمارس شغبه بأعلى درجات البديع من فنه، فيختمر هذا الأخير على أنفاس عشقه لِما تصنع يداه..
ما تصنعه يداه.. أم روحه..!
يخطر لي أننا ننحت ضيوفنا بالكلمات..
فكيف إذا كان ضيفنا في هذا الحوار، اعتاد النحت منذ الصغر.. فناناً تشكيلياً ونحاتاً مشهوداً له ليس عربياً فحسب، وعالمياً..
كيف أخلق منحوتة، كلمات تختلف عن كل منحوتات الحوارات السابقة التي أجريت معه..؟
ما السبيل إلى تقديم المغاير والمتمايز عن كل ما طُرح ضمنه اسم المبدع الكبير سهيل بدور.. ابن البلد الحقيقي والأصيل، والذي يكبر قلبك ليصبح بأضعاف حجمه الطبيعي حين تبحث في أرشيفه الواسع والضخم..
الفنان النشيط، الشغوف بعمله، مَن تمتلئ روزنامة أيامه بالكثير من الملتقيات والمعارض وورشات العمل.. كما الورشة التي حلّ ضيفاً فيها وأقيمت مؤخراً في غاليري تكوين، منطقة باب شرقي..
أسئلتي ستذهب نحو النبش، والحفر (بجوانية) المبدع التي يختزنها.. وينهل منها.. وليغدو هذا الحوار نحتاً عبر الكلمات.. بوحاً شفيفاً وصادقاً..
ـ كم استطاع الفن التشكيلي إعادة تشكيل شخصية “سهيل بدور”..
كيف قّربك من كينونتك الحالية.. وساعدك على اكتشاف الذات الجمالية والمعرفية التي أصبحت عليها..؟؟
ـ ـ كنت قد كتبت منذ مدة قريبة على صفحتي أن مرسمي هو من أنجو به. في الفن يجب أن تكوني بمعركة للاكتشاف عبر البحث والتجريب دائماً. لكنه ملجأ حتمي وصريح للروح.. من هنا يبدأ الاكتشاف لأن دائرة الرؤيا تتسع في فضاء الفن ودائرة المواجهة أيضاً تتسع حتى يعلن الفنان ذاته كفاعل إنساني وجمالي على المحيط.. الفن ليس فقط يقربني من ذاتي بل يصبح شريان خط الحياة لحريتي ولوجودي.
ـ يصف البعض هوية إنسان العصر الحالي بالإمكانية المفتوحة.. ويقول الشاعر الكبير أدونيس: “هوية المرء فيما يبدع من عمل وفكر”.. كم تشعر بحقيقية هذا المقولة، بمعنى هل لوحتك هي هويتك الأولى..؟
ـ ـ صدق أدونيس بلا شك لكن هذا الأمر مشروط بالمناخ وبمستوى العمل والفكر.. وبنتاج هذا العمل.. لكن المبدع على الدوام يفهم أن ما ينتجه هو هوية وحياة بالمعنى الحقيقي. لذلك لا يتوقف بصرف النظر عن أي ظرف أو إمكانية. الفن سلوك ثم نشاط والاثنان معاً هوية.
ـ لفتني في أحد الفيديوهات التي تتحدث عنك، حضور سيدة أجنبية، يبدو أنها إحدى طالباتك، روت كيف قمتَ بتحرير كائنات صغيرة من شبكة عنكبوت، لتنتهي إلى قول: “هو لا يستطيع إيذاء أي شيء”..
والسؤال: كيف يستطيع الفنان/المبدع الحفاظ على رهافة الإحساس لديه في ظل كل هذه البشاعة المحيطة..؟؟
وفيما لو وفّق في حربه ضد هذه البشاعة، كيف له تحقيق التوازن بين إحساسه المرهف وأنانيته كمبدع..؟
ـ ـ مرهفو الحس يتمتعون بمستويات عالية من التعاطف. المرهف شخص وجداني يفعل ما يمليه عليه الضمير. والمبدع أو من يشتغل بدائرة الإبداع من حقه بعضٌ من هذه الأنانية لعل فيها شيئاً من كوامنه النفسية بل وغروره أيضاً. بالنهاية أكرر الفعل الإبداعي هو سلوك ونشاط يحتمل الكثير.. ليصبح في أداء إنساني راقٍ. أنا لا أحارب القبح بل أقدم خلاصة وعي إنساني وفني ومعرفي ووجداني.. بالمجمل الفنان التشكيلي مساحة حريته أوسع لأنه فردي والفضاء الذي يعمل فيه أيضاً أكثر رحابة من تجليات إبداع أخرى.. الرائع في الحياة أن نقدّم تماسّاً إنسانياً راقياً لكل الموجودات بقدر وعينا واستطاعتنا.
ـ حسب الفيلسوف جيل دولوز، المبدع ليس الشخص الذي يعمل من أجل المتعة، بل هو الشخص الذي “يُنتج ما هو في أشد الحاجة إليه”..
ما الشيء الذي أنت في أشد الحاجة إليه..؟؟
ـ ـ شرط المتعة في العمل الفني ليس فقط ضرورة بل يؤكد الصدق بالنسبة لي.. وحاجات المبدع ليس بالمنتج الفني. المنتَج هو الحصيلة لتجربته الإنسانية ولمعرفته.. لذلك هناك أمور بأشد الحاجة إليها ربما لا تتعلق بعمل فني أو مشروع ربما بشيء إنساني بالنسبة لي.
ـ هل تقوم بعملية إقصاء لسهيل “الإنسان” لصالح سهيل “الفنان”..؟
ـ ـ سهيل الإنسان هو الأهم. في تجربتي الإنسانية تعبت جداً وتألّمت ولم أتوانَ لحظةً رغم الوجع أن أبقى واقفاً على الحياة بالكثير من الثقة والمناكفة المستمرة حتى أكون وقد كنت. لذلك سهيل الإنسان هو من يدعم الفنان ويقدّم له خلاصة التجربة الحياتية.
ـ هل تشعر أن سهيل “المبدع” نما داخلك لدرجة استولى فيها على كل كينونتك..؟؟
ـ ـ مسيرة الإبداع مسيرة تعب وصبر.. والمبدع لا يتوقف عن تعلم حيثياته مثابراً. ومن مقومات الإبداع الجدة حتى الفرادة.. إذاً الإبداع ليس مجرد نزوة بل هو حياة وديمومة للفنان.
والقدرة على الإبداع هي نفحة من الخالق. لذلك في مراحل متقدمة من التجربة من الصعب أن تعرفي من هو المسيطر فعلاً ومن يستولي على من.
ـ توصّف أعمالك بقولك: “أعمالي بمجملها أجوبة صامتة لأسئلة صعبة..”، ألا يُفترض بالفن أن يحمل شيئاً من المشاغبة..؟
وبالتالي أن يثير علامات استفهام.. إذ ليس من مهمته تقديم إجابات..
ـ ـ دعيني أقول أولاً أن السرّ في الحياة وليس في الفن.. الحياة هي هذا الفضاء المكتنز بالأسئلة وغالباً بلا أجوبة واضحة أو صريحة. والفن مازال لعبة مبهمة، وللتوصيف بشكل دقيق نستثني بعض المدارس الفنية، وفضاؤه رحبٌ.. ومن حق الفنان الاعتقاد بأن ما يقدّمه سؤالٌ أو جواب.. أن يقدّمه حلاً أو اشكالاً. هي حرية شخصية تتبع رؤية الفنان لقضاياه العامة أو الشخصية.
ـ هل ثمة أزمنة/تواريخ، أماكن، أشخاص، وجوه.. تلاحقك فتفرض نفسها في عملك.. بمعنى أنها عالقة أبداً في ذاكرتك فتستثمرها كإلهام..؟
ـ ـ هناك أزمة تزاحم وغنى ذاكرة حقيقي. مررت بمراحل مهمة في حياتي والتقيت الكثير: كتّاباً، فنانين، موسيقيين، واشتغلت بالكثير من تجلّيات الإبداع. كنت دائماً أراقب وأشاغب وأدقق وكنت فضولياً جداً كي أعرف وأتعرف. والكثير من التواريخ والأشخاص والحالات مازالت تسكن الجانب القصي من رأسي ولم تغادر لعلها للآن منصة لروحي أستعيد الكثير منها عندما أود أن أغادر تلوث نهاراتنا الآن.. والكثير منها يحفزني ويلهمني. كم أحبّها وأحنّ إليها وأحترمها.
ـ حالة الغنى اللوني الموجود على سطح لوحتك هل يعكس غنى داخلياً.. أم هو تعبير عن افتقادٍ لشيء ما..؟
ـ ـ بلا شك غنى داخلي وافتقاد معاً. هي تجربة ما ينوف عن ٥٠ عامأ من الدراسة والبحث والتجريب. وأنا عاشق مدنف للألوان الطازجة والصريحة والتي تتطلب جرأة عالية. والغنى اللوني هو ردّ في بعض الأماكن على شح اللون في الكثير من الأعمال.. وأعتقد حتى هنا في سورية تبعني الكثير في ذلك وللأستاذ والفنان الكبير غسان سباعي رحمه الله كلمة في ذلك عندما قال وبالحرف (شكراً سهيل حرّضت الفنانين على اللون جيداً) وذكر لي أسماء بعينها.
ـ ثمة إحساس يتسرّب إلى متابعك، ولقارئ مقطوعاتك الشعرية، أنك تمارس نوعاً من الهروب.. مما تهرب..؟؟
وهل هذا الهروب هو بحث عمّا ترقبه عبر انتظارك..؟
بمعنى استبدال الترقب عبر الذهاب إلى ما تنتظره..؟
ـ ـ على العكس أنا لا أمارس هروباً بل مواجهة حقيقة ولعلها مواجهة للذات أولاً بمعنى ربما أشرح شيئاً من حزن شيئاً من فرح.. المهم أحاول أن أفكّك شيئاً من بوح الروح بالكثير من الصدق والاعتراف.. ربما يطغى عليه الحزن أكثر.. لأن وجه العالم أصبح قبيحاً وأكثر.. رغم أنك تعرفين والكثير يعرف أنني إنسان مرح ومواظبٌ ولا يوقفني شيءٌ أبداً.
ـ من خلال معرفتي بك أعتقد أن لديك حالة تناوب ما بين حضور واضح اجتماعياً، وما بين إقصاء ذاتك ابتعاداً عن أي تجمّع.. بالعموم، توازن ما بين الحالين..
لكن، في الفترة الأخيرة يبدو واضحاً أنك انزويت وابتعدت كثيراً عن الناس والتجمعات، فهل مللتَ أم اُتخمت أم ازداد فهمك للناس والواقع وبالتالي ابتعدت..؟
ـ ـ بداية الوحدة هي مصير الأرواح العظيمة. ربما أعطيت الكثير أكثر من حقهم.. والورد يموت من كثرة الماء أليس كذلك. والأمر الآخر وللأسف تكتشفين أن ألد أعدائك هم الأقربون.. ربما هو وجه الحياة الجديد والذي سئمته لذلك ابتعدت.. غير ذلك أنا لا أندم على صراحتي حدّ الوقاحة أحياناً.. فالعيشُ بوجهين أمرٌ مقرفٌ أيضاً.. لذلك ابتعدت ولم أعد احتمل شكل النفاق والحسد والغيرة.