الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
حين يخطر ببالي اسم الأستاذ صميم الشريف، تنساب منه ذكريات أين منها الجدول الرقراق الذي يشنف الآذان بسقسقة مائه الزلال. ذكريات تعود إلى أكثر من ستين عاماً، حين كنت طالباً في إعدادية (أسعد عبد الله) في حي الحلبوني بدمشق. كان الأستاذ صميم مدرساً للموسيقا. وكنا وقتها في فترة الانفصال، وكان هو وحدوياً حتى العظم، فكان يخصص النصف الأول من الدرس لمهاجمة الانفصال والانفصاليين، والنصف الثاني للموسيقا. وكان يقص علينا حكايات عن الموسيقيين الأوروبيين الكلاسيكيين. وكان أولهم البولوني فريدريك شوبان، فيحدثنا بأسلوب قصصي ممتع عن حياته وإبداعاته الموسيقية. ثم جاء بعده دور بتهوفن مع امبرطور وامبرطورة النمسا ثم غيره وغيره. ومن يومها بدأ حبي للموسيقا، وتعزز هذا الحب حين التقيته أول مرة بعد ولوجي مهنة الصحافة، كان ذلك عام 1980، في حفلة لفرقة (هالا لموسيقا الحجرة) الألمانية الشرقية. فكانت بداية صداقة متينة بيني وبينه، ويومها نصحني بأن اتخصص بالكتابة عن الموسيقا، وهكذا كان.
وإذا كان صميم الشريف قد اشتهر كأستاذ للموسيقا وناقد موسيقي، فإن الجانب الأدبي في حياته لا يقل أهمية عن الجانب الموسيقي.
أحب صميم الشريف الموسيقا منذ طفولته، وكان أول أستاذ له في الموسيقا مصطفى الصواف في مدرسة التجهيز الأولى (ثانوية جودت الهاشمي) الذي حببه بالموسيقا. ثم دَرَس الموسيقا دراسة خاصة على يد الموسيقي الروسي آرنست بللينغ، فتعلم النوتة الموسيقا والعزف على آلة الماندولين التي عزف عليها ضمن الفرقة الموسيقية لنادي أصدقاء الفنون. وبعد نيله الشهادة الثانوية انتسب إلى دار المعلمين (قسم الموسيقا)، وبعد تخرجه عمل مدرساً في ثانويات السويداء، ثم في ريف دمشق ودمشق.
وإلى جانب التدريس كتب صميم الشريف الكثير من المقالات والدراسات الموسيقية. ووضع العديد من الكتب في الموسيقا. وأول كتبه (أساطين الموسيقا العالمية) صدر عام 1954، وتضمن دراسات عن تسعة عشر موسيقياً عالمياً، بعد ذلك اتجه نحو الموسيقا العربية، فوضع كتاب (الموسيقا العربية) عام 1981، وتناول فيه الموسيقا العربية وقوالبها وأعلامها. وفي عام 1991 وضع كتابه الثالث (الموسيقا في سورية) الذي وثق فيه لمجموعة من الموسيقيين والمطربين السوريين، والكتاب الرابع كان (السنباطي وجيل العمالقة)، وخامس كتبه الموسيقية كان (نجيب السراج وعصر من الموسيقا والغناء) الذي صدرعن مهرجان الأغنية السورية التاسع عام 2003، وفيه وثّق مسيرة الفنان نجيب السراج. وفي عان 2011 أعاد إصدار كتابه (الموسيقا في سورية) بطبعة مزيدة وموسعة، وكان هذا الإصادر آخر كتبه، وفي إهدائه لي على نسخة منه سلمني الأمانة حين كتب يخاطبني (الصديق الأستاذ أحمد بوبس…هذا الكتاب محاولة أرجو وآمل أن تتابعها بعدي بما عُرِفَ عنك وم دأب ومثابرة في هذا المجال).
العطاء الأدبي عند صميم الشريف غني ومهم، ولا يقل عن عطائه في الموسيقا، فقد كتب القصة والرواية. بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1948، عندما شارك في مسابقة للقصة أعلنتها مجلة الأديب اللبنانية، وفاز بالجائزة الثانية عن قصته (غفران)، وتابع بعدها كتابة القصص، وفي عام 1953 جمع قصصه، وأصدرها في مجموعة قصصية حملت عنوان (أنين الأرض) وفي العام نفسه أعلنت مجلة النفاد الدمشقية عن مسابقة للقصة القصيرة، فشارك فيها وفاز بالجائزة الأولى عن قصته (العتال). وفي عام 1961 أصدر مجموعته القصصية الثانية التي حملت عنوان (عندما يجوع الأطفال)، وجميع قصصه في المجموعتين تنتمي إلى الواقعية الاشتراكية، إذ تتناول في موضوعاتها الطبقة المسحوقة. وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي (العشرين) كتب قصة (اعترافات زنزانة)ـ وذهب بها إلى مجلة المعرفة، فرفض رئيس التحرير نشرها، فتوقف عن الكتابة القصصية واتجه إلى الكتابة الموسيقية.
وإذا كان صميم الشريف قد توقف عن نشر نتاجاته الأدبية في الصحف والمجلات، فإنه لم يتوقف عن الكتابة فيها، فكتب الكثير من القصص وأودغها أرشيفه، ومنها رواية (المياه الجارفة)، التي بدأ بكتابتها عام 1957 وأنهاها في سبعينيات القرن الماضي (العشرين)، وتقدم بها إلى اتحاد الكتاب العرب لطباعتها، تمت طباعتها وصدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب بأسم (المياه العائمة).
وصميم الشريف من رواد العمل التلفزيوني، فقد أعد للتلفزيون العديد من البرامج، أولها برنامج (نافذة على العالم) عام 1961، الذي كان يُطل في كل حلقة منه حلقاته على دولة من دول العالم يُعرف بثقافة شعبها وفنونه، وكان مدته نصف ساعة ثم تحوّل اسمه إلى (حول العالم)، وأصبح مدته ساعة. ثم انتقل بعد ذلك إلى البرامج الموسيقيةـ فأعدّ برنامج (العصا السحرية)، والمقصود بها عصا قائد الفرقة السيمفونية، وقدّم فيه روائع الموسيقا العالمية، واستمر لمدة سنتين، ثم قدم برنامجه الموسيقي الثاني (فنون الشعوب)، وفي كل حلقة كان يُقدم موسيقا ورقصات شعبية لشعب من شعوب العالم، وكانت المذيعة المقدِّمة للبرنامج تظهر وهي ترتدي الزي الفولوكلوري للشعب موضوع الحلقة. وآخر وأهم البرامج التي قدمها برنامج (من ذاكرة التلفزيون) الذي كان يُقدّم فيه أغنيات وأعمالاً درامية من أيام الأبيض والأسود، واستمر لسنوات كثيرة.
ويوم الإثنين الرابع والعشرين من كانون الأول 2012، فُجعت شخصياً، وفجعت الأوساط الثقافية برحيل المربي والأديب والناقد الموسيقي صميم الشريف عن خمسة وثمانين عاماً، أمضى معظمها في خدمة الأدب الفن، وكنت في نحو نصفها رفيق دربه، لا يمر أسبوع إلا والتقيه إما في مقهى الكمال حيث له ركن خاص، وإما في مكتبه بجمعية تنظيم الأسرة التي كان رئيسها، أو في منزله. عطر الله ثراه.
العدد 1144 – 16-5-2023