خميس بن عبيد القطيطي – كاتب من سلطنة عمان
يجمع المراقبون للمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المملكة العربية السعودية أن ما تحقق خلال السنوات الاخيرة بالمملكة يعبر عن إرادة كبيرة ورغبة قوية في تحقيق قفزة كبرى للمملكة، رافقها تحولات براجماتية في السياسة السعودية، فقد التقطت المملكة هذه اللحظة التاريخية وهذه التحولات العالمية لتقدم نفسها ضمن هذا السياق من أجل تحقيق قفزة نحو العالمية، ومن خلال هذا النهج الاستراتيجي تضع الرياض موطئ قدم في النظام العالمي القادم، وهذا بلا شك يهم العرب جميعاً لما له من خير واستقرار وازدهار على الوطن العربي بشكل عام.
الانطلاقة السعودية تزامنت مع صياغة الرؤية الاقتصادية ٢٠٣٠ التي حددت ملامح التطوير بالمملكة في المرحلة القادمة برعاية من خادم الحرمين واشراف ومتابعة من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي أحدث تغييرات كبرى في المملكة وتحديثاً وطنياً ملفتاً من خلال تنفيذ معالجات جذرية حققت النجاح بعد تأهيل كل مؤسسات الدولة مواكبة لهذه الانطلاقة، وقد تفاعلت جميع المؤسسات الوطنية السعودية مع هذه الرؤية وهذه التحولات فبرزت نتائجها على المشهد سريعاً.
رؤية المملكة بالتأكيد كانت تتطلب معالجات على الصعيد الإقليمي والدولي وتقديم تسويات لملفات سياسية عالقة أو عائقة بالتوازي مع توجه اقتصادي عالمي، فجاء انتهاج سياسة صفر مشاكل خياراً سعودياً لتحقيق الآمال والتطلعات على صعيد المشهد الوطني السعودي أدى الى تحقيق مصالحة مع التاريخ والجغرافيا بالانفتاح على الجوار العربي والاقليمي ما يعني استقلالاً وانتصاراً للإرادة السياسية، وتجاوزاً لسياسات سادتها لغة المواجهة الخاسرة مع أهمية التلويح بلغة المصالح الوطنية وتقديم الأوراق الرابحة التي تمتلكها المملكة لتسجل اصطفافاً وطنياً مع محوريتها الجغرافية والسياسية بين محاور الشرق والغرب، وما يتحقق اليوم على أرض الواقع يبشر بمستقبل سعودي عربي مزدهر.
نعم هناك خطة واقعية واضحة مدروسة تنفذ على أرض الواقع وتحظى بمتابعة واهتمام بالغ لدى القيادة السعودية، وبالتالي فإن هذه الحركة الوطنية النشطة ينبغي ألا يعطلها أي تشويش خارجي أو أي مطبات سياسية، ومن هنا برزت سياسة صفر مشاكل مع الجوار العربي والاقليمي والانفتاح على كل قوى الاقتصاد العالمي، هذه التحولات في المشهد الوطني السعودي والانطلاقة الاقتصادية الكبرى استطاعت أن تبرز في ظل متغيرات عالمية وحاجة العالم لمصادر الطاقة الذي وظفته الرياض كورقة رابحة من خلال محوريتها وثقلها النفطي لتتبنى معادلة التوازن النفطي العالمي من خلال تقليص الإنتاج مع الشركاء في (أوبك بلس) بما يخدم التوازن الاقتصادي العالمي، كما استضافت الرياض قطبي الشرق والغرب في قمتين منفصلتين خلال العام المنصرم وهذا يعبر عن أهمية ومحورية المملكة.
تحدثنا في وقت سابق عن أهمية الحوار بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية كأحد أهم الاستحقاقات السياسية، ولا شك في أن ما تحقق في بكين من اتفاق كبير بين طهران والرياض يعتبر أحد مرتكزات التعاون الاقليمي ونسفاً لتاريخ معقد من العلاقات الدولية الملبدة بين طرفي الخليج، وهذا الانفتاح سوف يحقق نجاحات كبيرة في منطقة الخليج والاقليم عموماً وسوف يساعد على ترجمة أبجديات المستقبل لعالم جديد متعدد الأقطاب، ومن هنا ينبغي العض على اتفاق بكين بالنواجذ لأن هناك قوى شيطانية تحاول التسرب والنفاذ من خلال أي نقطة حرجة لافشال هذا التقارب الاستراتيجي، كما يتطلب أيضا نوايا حسنة وصادقة من كلا الطرفين وهما بالتأكيد يدركان أهميته وحجم المصالح السياسية والاقتصادية من خلاله، وما سوف ينعكس على التنمية الوطنية في البلدين، وما يشكِّله من مصدات في معركة الوعي لأي محاولات خارجية تهدف الى الوقيعة بين البلدين الكبيرين، كما أنه يكرس دعائم وأُسُس المجتمع الدولي ومؤسساته الداعية إلى الأمن والاستقرار في العالم.
المملكة العربية السعودية وجهت رسائل عالمية بالغة الأهمية خلال الشهور الماضية بدأت مع التحفظ على مشروع قرار أميركي أوروبي في مجلس حقوق الإنسان ضد روسيا، تلاه التهديد بالتعامل باليوان الصيني في المعاملات التجارية تأكيداً على أهمية احترام المصالح المتبادلة بين الشركاء الدوليين، بعدها جاءت القمة العربية الامريكية لتؤكد أن هناك تحولاً استراتيجياً يحدث في الرياض وعلى القوى الاقتصادية الكبرى احترام المصالح الوطنية والقومية للآخرين على اعتبار مصالح المملكة والإقليم أولاً، وبالمقابل لن يتم إسقاط حظوظ القوى العالمية من الحسابات الاقتصادية لكن مع أهمية إحداث التوازن سياسياً واقتصادياً فيما يخدم مصالح الجميع واحترام العلاقات الدولية، بعدها عقدت القمة العربية الصينية التي عززت الانطلاقة ثم حدث التواصل مع روسيا، تلاها توجيه دعوة للمملكة ودول أخرى بالمنطقة للانضمام الى مجموعة “بريكس” كل هذه التحولات ترسم عنواناً واحداً وهو تبوؤ المملكة مكاناً جديداً على خارطة المنطقة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تبنت المملكة سياسة التوازن النفطي بتقليص إنتاج النفط لاوبك بلس 2 مليون برميل، ثم أعلنت المملكة وبعض دول اوبك+ لاحقاً التقليص الثاني لأكثر من مليون ونصف المليون برميل.
وجاء اتفاق بكين مؤخراً ليفاجأ العالم بهذا الانفتاح الكبير الذي تتبناه السياسة البراجماتية السعودية والذي أعقبه توجهاً سعودياً لإنهاء الصراع في اليمن، تلاه الانفتاح على سورية والذي بشرنا به منذ وقت سابق عبر وسائل الاعلام، كما حرصت المملكة على مشروع عودة سورية الى الجامعة العربية لتشكل الرياض قاعدة عربية نحو وحدة الصف العربي الذي نأمل أن يستمر بهذا الاتجاه للدفع نحو تحقيق المشروع العربي المأمول وتفعيل العمل العربي المشترك في كل مجالاته الإنسانية، وبعد غدٍ الجمعة 19 أيار/ مايو 2023م تحتضن المملكة القمة العربية وتستلم رئاسة القمة ضمن سياقات التحولات التي تقودها الرياض والتي نأمل أن تختلف كلياً عما سبقها من قمم خلال العقود الخمسة الماضية بحيث تلبي تطلعات الأمة العربية، كل تلك التحولات الكبرى تدفع المملكة نحو تبوؤ مكانتها في مستقبل ينبئ بولادة نظام عالمي جديد يكون للعرب موطئ قدم فيه وهو ما نتطلع إليه ونأمل تحقيقه.
– المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة الوطن العمانية ورأي اليوم