اقتربتُ منه بعد أن خلا من أضواء الكاميرات وفضول الإعلاميين أثناء تغطيتهم للوحاته في المتحف الوطني، وسألته عن زوجة تحتمل زوجها لساعات وشهورٍ وربما سنين، وهو يعدُّ لوحات فسيفسائية مصدرها الأول الصبر والصمت والسكينة.
سألته: “ألم يكن لزوجتك دور أساسي في وجودك هنا وأنتَ تُكرّم؟ أراها كالجندي المجهول الذي لم تتحدث عنه على الملأ، رغم أنها ترافقك بصمت؟!”.
فسرد لي أنها هي من تقاسمه جوَّ الفن وتوفر له الراحة والاستقرار، لفنٍّ لا يعدُّ لوناً وحسب، بل يتطلب دقة وتركيزاً وعناية فائقة لرسم تصور يجسدها بقطع فسيفسائية صغيرة.
فعلى الأغلب، إنها وكما سماها علماء النفس “الشراكة الروحيّة”، أي الفهم المتبادل الذي يمكن المبدع من الإبداع بحرية.
فقد وصف جبران في رسائله إلى “ماري هاسكل” فهمها له بأنه “حرية آمنة”، وهنا تكمن المحبة الحقيقية، أي “ابنة التفاهم الروحي” فيؤكد أن كل شريك يجب أن يظل فرداً مستقلاً، مثلما أن “أوتار القيثارة” منفصلةٌ لكنها تصدر نغمة واحدة، وهذا ينطبق على العلاقة بين المبدع وشريكه.
العلاقة الزوجية لا تقيّد المبدع، بل يجب أن يحافظ كل من الشريكين على فرديتهما.
فالشريك المثالي، سواء كان زوجاً أم زوجة، هو الداعم الذي يسمح للمبدع بأن يكون “حراً طليقاً” من خلال فهمه وإيمانه به. أي أن الشريك الذي يفهمنا حقاً يمنحنا حرية آمنة، من خلال صفات يتمتع بها مثل الوداعة، والعطف، والقوة، والفهم، وكلها عوامل تمكّنه من الإبداع.
قبل سنوات من إصدار تحفة جبران القصيرة “المجنون”، التي كتب فيها: “لقد وجدتُ حرية الوحدة والأمان من فهم الآخرين لي، لأن أولئك الذين يفهموننا يستعبدون شيئاً فينا”.
إنه يرى هاسكل كاستثناء وحيد لهذا الاعتقاد ويكتب: “إن فهمك إياي هو الحريّة الآمنة التي عرفت، وفي آخر ساعتين من زيارتك الأخيرة أخذت قلبي بين راحتيك ووجدت بقعة سوداء فيه.
لكنك ما إن وجدت تلك البقعة حتى محوتها للأبد، وأصبحت بكل تأكيد حراً طليقاً” والسؤال الذي يفرض نفسه: هل على الجميع أن يكونوا مبدعين لكي يتمتعوا بتلك الحرية؟!.