انشغل السوريون مطولاً ببحث مسألة الهوية والمواطنة والانتماء والالتزام على امتداد عقود مضت، فكانت مرحلة اليقظة العربية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فترة صعود حالة الانتماء الوطني والقومي كرد فعل على مئات السنوات من الاحتلال العثماني وإجراءاته البغيضة ضد العروبة، وخاصة في سنواتها الأخيرة عندما سيطر الطورانيون ذوو النزعة العنصرية والعدائية تجاه العرب، وخاصة الشام بأبعادها الحيوية الفاعلة، لتكون الثورة العربية الكبرى محكومة بالانتصار على أرضها السورية المباركة، فنمت وتصاعدت وتعاظمت فكرة الانتماء الوطني لتكون حافزاً للتضحية والفداء والاستعداد لتقديم الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على حرية الوطن وسيادته واستقلاله، فالانتماء يمثل شعور الفرد اتجاه الوطن الذي يحمل جنسيته بالفخر والاعتزاز، إذ يعد شعوره بالإخلاص لهذا الوطن ووقوفه إلى جانبه في الأزمات، والمشاكل التي قد تمر عليه من أنبل صور الانتماء.
ويكون الولاء بقيام الفرد بواجباته اتجاه الوطن بأمانة، والمشاركة بالفعاليات والاحتفالات الوطنية، وتقديم مصلحة الوطن على مصلحته الخاصة، والترفع عن المنافع الشخصية الصغيرة، وعدم الخوض في المن والفضل للوطن، أو اعتبار قيامه بدور وطني بمنزلة تشريف وتعظيم له شخصياً ولا ينبغي استثناؤه من أي تكريم أو تقدير، بينما ينبغي له أن يشعر دوماً بالتقصير في دوره الوطني والاجتماعي باعتباره أول من يضحي ويقدم، وآخر من يستفيد ساعياً للعمل على تعزيز المودة والتآلف بين أبناء الوطن الواحد، واحترام عادات وتقاليد الوطن، والتمسك بالتراث الوطني والمحافظة عليه.
وهكذا ترسخت هذه المفاهيم في وجدان المواطن السوري سلوكاً معاشاً، وحالة لم تنقطع ولم تتبدل، حتى إن ظروف الحرب الإرهابية وما رافقها من حرب نفسية ومغالطات إعلامية لم تؤثر ولم تبدل في مفاهيم المواطنة وما يلحق بها من انتماء والتزام ليقدم السوريون أروع الأمثلة في التضحية والفداء انتماءً لهذا الوطن والتزاماً بمبادئه السامية التي تفسر الاستمرار بعد هذه السنوات في الاستعداد للمزيد من التضحيات الغالية بالغالي والنفيس، الأمر الذي يشكل رداً بنيوياً أساسياً وصادقاً على تلك الهجمات الإعلامية وما رافقها من حروب نفسية حاولت التأثير في الوجدان الفردي لتبعده عن قضايا وطنه، فلا يضحي إلا بمقابل، ولا يدافع إلا بثمن ولا يبدي استعداداً للعطاء ويتراجع عن وطنيته أمام أول انتكاسة سياسية أو اقتصادية أو معاشية، فتنهار البنى المجتمعية ويخسر الوطن، وهو أمر لم يحصل ولم يتحقق، وبقي السوري يقدم يومياً المثال تلو الآخر كنماذج للبحث في تمثل معاني الانتماء الوطني والالتزام الأخلاقي والقانوني كعوامل أساسية في بناء مجتمع عصي على الاختراق.
ولعل النهايات الراهنة تؤكد ثبات التزام السوريين بوطنهم واستعدادهم لمواجهة التحديات الصعبة مهما بلغت، في ظل سيادة ثقافة الفداء والعطاء والتضحية بالمال والنفس وتقديس مكانة الشهداء كقرابين على مذبح حرية الوطن وكرامته.