الملحق الثقافي- حوار: رفاه الدروبي:
لطالما شغلنا دور الفكر في ترسيخ الهوية والانتماء فكان لابد لنا من التوجه لتنبيه الرأي في الأدب والفكر.
الدكتور الأديب غسان لافي طعمة رأى بأنَّ الفكر يعتبر الأساس الصلب لأيِّ هوية وطنية أو قومية وأنَّ الشعور بالانتماء للوطن أو الأمة لا يقوم على العواطف الجياشة والمشاعر الملتهبة لأنَّ لها علاقة بالآتي و سرعان ما يزول أما ما يبنى على أساس فكري فإنَّه يترسخ في العقول ويثبت أمام العواصف.. لافتاً إلى ضرورة العمل على ترسيخ ثقافة وطنية واضحة المعالم وتطغى الموجات العاطفية الهشة على خطابنا الفكري للأجيال فاهتزت وترنحت أمام العواصف التي ألمت بوطننا ومازال الكثيرون يشعرون بالانتماء والتمسك بالهوية.
بدوره الأديب محمود نقشو رأى بأنَّ الهويّة تلغي التعدّد لصالح الواحد بينما الشخصيّة تولد وتنمو عبر جدل دائم بين الواحد والكلّ، وتتطوّرعبر الحفاظ على التعدّد الغنيّ داخلها لافتاً بأنَّ مفهوم الشخصيّة يكون الأنسب للدلالة والتعرّف على مجموعة بشريّة متعدّدة الانتماءات العرقيّة والإثنيّة، وتعيش على أرض واحدة، ويجمعها مجال جيوسياسيّ واحد، وثقافات متقاربة، فيها عناصر تاريخيّة مشتركة.. وعلى الأساس ذاته إنّ مفهوم (الشخصيّة) يساعد أكثر في فهم المكوّنات المتعدّدة لأيّ مجموعة بشريّة، ويتيح لها إمكانيّة إنتاج اللاحم الحياتيّ الحداثيّ الجديد، كما يجمعها ويربطها في الدولة والوطن.. منوِّها بأنَّه لا يمكن الحديث بشكل علميّ دقيق عن جوهر ثابت لشعب من الشعوب، منذ بداية زمن الحداثة، وصولاً إلى اللحظة الراهنة؛ حيث للعالم نوافذ مفتوحة على بعضه بعضاً في التلاقي والحوار، كما في الأواني المستطرقة .. فلا أحد يمكنه الحديث عن هويّة واحدة ثابتة ومستقرّة عبر التاريخ لأيّ كان، كي يميّز جوهره العرقيّ الأصيل عن الآخر، إلّا من خلال ذاكرة جماعيّة تاريخيّة خاصّة، تكون على الأغلب متداخلة ومتشابكة مع أكبر وأوسع لمجموعة كبيرة من أقليّات أخرى أو أكثريّات عرقيّة وقوميّة تعيش في ظلّ عيش مشترك عبر التاريخ في بلد واحد.
الأديب نقشو أكَّد أنَّه يستهوي كثيراً من أصحاب الدعوات القوميّة والعرقيّة القديمة مصطلح «الهويّة»، لادّعاء تمييز ذاتهم بنقاء ثقافيّ عرقيّ ثابت عبر الزمن عن المكونات الأخرى المتعدّدة، أوعن الثقافة الجامعة عبر التاريخ؛ ولحاجتهم للادّعاء نفسه من أجل تأسيس مشروعيّة تاريخيّة لفكرة وخطاب المظلوميّة الشديدة ويرون، بأنَّهم عانوا منها من قبل الثقافة المهيمنة – كما يدّعون -؛ مع أنّ فلسفة ومنطق العلوم الإنسانيّة الحديثة جميعها تجاوز كثيراً وبعيداً أسس المنطق الصوريّ القديم، لاعتماده مبدأ الهويّة في جوهرها الثابت، باتجاه مناهج العلوم التجريبيّة البحثيّة، بمعطياتها الوضعيّة واليوميّة أو التاريخيّة المتغيّرة، ونتائجها النسبيّة المتحوّلة.
ولفت بأنَّ فكرة «العروبة» كانت كلاحم مجتمعيّ ثقافيّ عريض، وكتعبيرعن مشروع بناء شخصيّة جامعة تتطلّع نحو المستقبل فاستمدّت مقوّماتها كمشروع سياسيّ منذ أوائل القرن العشرين عصر ظهور الدول القوميّة في أوروبا ومناطق أخرى من العالم عبر فكرة (القوميّة العربيّة) وأحزابها، ومن تجربة حضاريّة طويلة، ما زالت مدوّناتها الفلسفيّة الفكريّة والأدبيّة الثقافيّة مجالاً مفتوحاً للبحث والدراسة في الشرق والغرب.. وتختزل ذاكرة ثقافيّة جماعيّة مشتركة، ساهمت في إنجازها أغلب شعوب المنطقة بكلّ تعدّدها القوميّ والدينيّ؛ فشكلت مع الزمن واقعاً ما زال راهناً حتّى اليوم، ويمكن تسميته «منطقة الثقافة العربيّة الإسلاميّة» .
وأكَّد الأديب نقشو بأنَّه يدفع إلى دقّ جرس الخطر انتشار ظاهرة خطيرة ملفتة، مستمرّة في مجتمعاتنا العربيّة، بدأت منذ سبعينيّات القرن العشرين، وتحديداً عشية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، عبر دعوة العديد من الشخصيّات والأحزاب ضمن مكونات المجتمعات نفسها للعودة إلى أصول هويّاتها التاريخيّة القديمة الموغلة في القدم، والتنكّر لإرث حضارة طويلة وعميقة الجذور، متمثّلة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة في حوض البحر الأبيض المتوسط .. متناسين حقيقة تاريخيّة علميّة، مفادها أن لا وجود في سيرورة المجتمعات البشريّة لنقاء عرقيّ أو إثنيّ أو ثقافيّ صاف مستمرّ إلى الأبد.. فالمجتمعات البشريّة في حالة تشكّل دائم، بتأثير عوامل عديدة، أهمّها الغزوات والحروب، وما يرافقها من تفاعلات اجتماعيّة، وما ينتج عنها أيضاً وفي حالات كثيرة من تجمّعات بشريّة ثقافيّة جديدة، متنوّعة، ومتعدّدة العطاءات .. وكان الأمر في أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وفي القارّة الأميركيّة ، وفي الشرق الأوسط، وتحديداً منطقتنا العربيّة.
وتساءل الأديب محمود هلال حديثه عن أسباب طرح الدعوات ذاتها اليوم، وما هية أهدافها وحقيقتها؟.فقال: إنَّه يجد أصحاب التفكير العرقيّ العصبويّ الماضويّ في زمن الأزمات أو الانفجارات المجتمعيّة الكبيرة فرصتهم الذهبيّة السانحة لتصفية حسابات نهائيّة مع مخزون الثقافة الأقوى، وتشكّل عبر التاريخ، بمشاركة وتفاعل كلّ التعدّد الفاعل في سياق حضاريّ تاريخيّ طويل .. وبالتالي فظهورهم يوازي ظهور التيارات الدينيّة الأصوليّة المتزمّتة وحركاتها، كتعبير مزدوج عن أحد أخطر مظاهر الأزمة الحادّة في المجتمع، كحوامل لإرهاصات الحركة المضادّة داخل الانفجار المجتمعيّ الحاصل .. مع فارق أنّ أصحاب دعوات الهويّات التاريخيّة القديمة لا يستحوذون على المقدّس الدينيّ أو الأيديولوجيّة الدينيّة فتمكّنهم من استحواز الجمهور العريض، ويغدو هدفهم الأوّل النيل من الثقافة العربيّة ولغتها، ماضياً وحاضراً .. وهدفهم الثاني تلبّس الدين بمخزونه الاستراتيجيّ، للنيل من الثقافة والنيل من الحركات السياسيّة للقوميّة العربيّة، ومن فكرة العروبة تحديداً، تحت غطاء خطاب مدنيّ علمانيّ في الشكل، لكنّه متعصّب عنصريّ وماضويّ في العمق والمضمون.. وتكون نقطة اللقاء المشترك بينهم وبين التيّارات الدينيّة التكفيريّة المتشدّدة من أيّ دين كان؛ خصوصاً أنّ الطرفين حمّلا فكرة (القومية العربيّة) مسؤوليّة التشظّي والانهيارات المجتمعيّة الكارثيّة الحاصلة؛ بسبب هيمنتها الطويلة سياسيّاً – ومنذ منتصف القرن العشرين – سواء من خلال السلطات الحاكمة باسمها، أو من خلال أحزاب وشخصيّات عملت ونظّرت للعصبيّة العربيّة وهيمنتها على المكونات الأخرى – كما يدّعون ؛ أو بسبب الجانب العلمانيّ المتعارض مع الشرع – كما تقول الجماعات الدينيّة – وكل ذلك دون أن يدقّقوا جيّداً، ويفصلوا علميّاً بين الفكرة، التي ظهرت في لحظة زمنيّة حديثة (أوائل القرن العشرين) بعد الخروج من عباءة العثمانيّة الإمبراطوريّة السابقة المنهارة، كحاجة مجتمعيّة ماسّة آنذاك.. إذ لم يكن ثمّة بديل غيرها يشكّل لاحماً حداثيّاً جديداً، وبين المآلات اللاحقة لها على يد أصحابها أوّلاً، والذين تعثّروا كثيراً، وبدّدوا مقدّرات دولهم في سيرورة التاريخ.
أمّا بخصوص اتّهام الحضارة العربيّة الإسلاميّة بالعنف والقتل وسفك الدماء، فيكفي القول (إنّ التاريخ لم يشهد فاتحاً أرحم من المسلمين) كما رأى «غوستاف لوبون».. ويمكن التذكير بأنّ الحضارة الإنسانيّة الحديثة ونعيش في ظلالها، وظهر في مراكزها الأساسيّة الكبرى احترام أعلى معايير وقيم وحقوق الإنسان فعلاً لأوّل مرّة في التاريخ البشري.
بدوره عيسى إسماعيل يعتبر بأنَّ الفكر والعقائد والمبادئ والنظريات والأهداف التي آمن بها شعب من الشعوب وتكوِّن نهجه و ضميره الوطني والقومي وهويته الثقافية بما فيها من تراث مادي ولا مادي يجعل من الأمة ذاتها تتميزعن غيرها من الامم وتمنحها الهوية القومية والهوية الجنسية والفكرية والروحية للفرد بالمجتمع أو الأفراد الآخرين.
فيما أشار بأنَّ الهوية مبدأ فكر وعقيدة تتجسد على أرض الواقع عملاً حضارياً على مرِّ الزمن فالهوية العربية مثلاً تتركز على الفكر العربي الخلاق ونظرية الوحدة العربية والمصير المشترك والهوية تجذرها مزيد من القيم العربية وترتكز على مبادئ الفكر الإثنية أي الانتماء العرقي والفكرية و الروحية للفرد وللمجتمع لأنَّ هوية المجتمع من هوية الأفراد المنتمين إليه لنظريات السياسة وعلم الاجتماع واللغة والعقائد بأنواعها وتبلور شخصية الأمة الفكرية وهويتها الروحية مثلما تبلور التضاريس والحدود ،الجغرافية الطبيعية للأمة.. إنَّ اللغة تشكل العامل الأهم و العلامة الفارقة في شخصية الأمة أي في هويتها وغالباً ما يرتبط اسمها بلغتها الأصلية. كالأمة العربية والإسبانية والإنكليزية..
الشاعرة غادة اليوسف قالت: إنَّ السؤال عائم جداً ويفتح الباب لتطل منه أسئلة لابدَّ منها أهمُّها دور الفكر..فأيّ فكر نقصد؟ هل هو الفكر بمعنى ثقافة ما توجهها أيديولوجية ما؟ وماهية الهوية الإنسانية أم القومية الوطنية أم القبلية والعشائرية؟ أم الدينية أم المذهبية الطائفية؟ أم المناطقية؟
إنَّ الفكر المغذي كلاً من الهويات ويرسّخها ..يختلف عن غيره ..وبالتالي تختلف ثماره ..فالفكر والثقافة الموجهة إلى الإنسان بمختلف انتماءاته مادون الإنسانية يتوجب التعويل عليه .. لافتةً أنَّه لن يثمر مالم يغذّى بقيم احترام الإنسان بغض النظر عن قوميته وعرقه ودينه وطائفته وعشيرته ..وحتما يصب في احترامه لهويته الوطنية وهويات وأوطان الآخرين..كما يصب في احترامه لكل انتماء يخصه من خلال احترامه لكلِّ خصوصيات الآخرين العرقية والقومية و الدينية والمذهبية.. منوهة أنَّه يمكن الوقوف في وجه الفم السام المغذي ويرسّخ هويات مادون إنسانية ووطنية تتسبب في صراعات تمزق التسيح الوطني والانساني ..
ودعت الإنسان لعدم مسخ نفسه في هويات زائفة..
بعنوان الفكر الإنساني نرسخ الانتماء للوطن والإنسان.
العدد 1146 – 6-6-2023