العالم الثالث ونمو التخلف… صناعة الوهم

الملحق الثقافي- أيمن المراد:
«العالم الثالث، التخلف، التنمية، النمو» ليس من شك أن هذه المصطلحات تتلازم أحياناً وتتنافر أحياناً أخرى في عقول الكتاب وأفكارهم، فالكتاب الذين يستخدمون تلك المصطلحات دون نقد يقومون بتحليل لتلك المشكلات في دول العالم الذي اصطلح على تسميته «العالم الثالث»، فالنتائج العملية التي تؤدي إليها تحليلاتهم لا تسهم بأي شكل في حل مشكلات «التخلف» أو «التنمية».
فقد ظهر في الغرب في السنوات الأخيرة عدد من النظريات التي تذهب إلى أن الفرق بين بلدان العالم الثالث والدول الصناعية هو ظاهرة طبيعية، تلك النظريات التي تظهر بصيغة بريئة ظاهرياً، والواضح أن الذين اخترعوها ليسوا دائماً اقتصاديين محنكين من حيث الخبرة وسعة الاطلاع، بل هم في كثير من الأحيان من هواة الكتاب الذين يبحثون عن تعابير وصيغ شائعة تصبح لاحقاً على ألسنة الساسة والدبلوماسيين.
تجابه البشرية في عصرنا الراهن تحديات كبيرة ومختلفة، تحدي النهوض بثلاثة أرباع البشرية، العالم الذي اصطلح على تسميته «العالم الثالث» كي تلحق بركب بلدان العالم الأول الصناعي الرأسمالي، هذا الأمر لا غبار عليه ولا مأخذ عليه على الأقل ظاهرياً.
الواقع أن تركز الخبرات في عدد من المناطق المحظوظة من الكرة الأرضية، وتراكم التعاسة في مناطق أخرى قد دفع المسؤولين في البلدان الغربية إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تمنع تمردات قد تحدث هنا أوهناك في بلد من بلدان العالم الثالث، خشية أن تؤول إلى ثورة عالمية، والمفارقة العجيبة أن سكان العالم الثالث 48% من السكان لا ينتجون إلا 40% من الإنتاج الزراعي في العالم، وقد ارتفعت هذه النسبة قليلاً من السنين، لكن نسبة ارتفاع عدد السكان كانت أسرع بكثير، ورغم ذلك إلا أن معظم تلك الدول لا تزال لا تستطيع أن تطعم نفسها بنفسها.
وبمقاربة بسيطة نجد أن بريطانيا مثلاً تستورد كميات كبيرة، ولكن 4.5% فقط أواخر الستينات من سكانها العاملين يشتغلون في الزراعة، وفي الولايات المتحدة الأميركية، والتي تصدر إلى دول العالم كميات كبيرة من القمح نسبة السكان المشتغلين في الزراعة للفترة نفسها 3.5% فقط، أما الهند التي عانت من السيطرة البريطانية، طوال قرنين فإن إنتاجها من الأغذية لا يكفيها رغم أن أكثر من 50% من سكانها العاملين يشتغلون في إنتاج الأغذية.
مع كل ما سبق لماذا لا يجوز التحدث عن بلدان العالم الثالث، بوصفها بلداناً متأخرة في الحقل الصناعي وحسب، فهي بالفعل متأخرة كذلك في الحقل الزراعي، أي إنها تعاني تأخراً اقتصادياً عاماً.
إن مشروع وضع حد لتخلف معظم بلدان آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية لا يختلف في جوانبه «الإنسانية» عن مشروع تصفية العبودية، فالهدف من هذا المشروع اجتثاث الانفجارات الثورية في البلدان المعنية والحيلولة دون هدم النظام العالمي «العالم الرأسمالي».
السؤال الطبيعي هنا: لماذا تقدم البلدان الرأسمالية العالية التطور – وبسخاء شديد أحياناً- المعونة والقروض والتعاون التفني والثقافي لبلدان «العالم الثالث» ؟هل تغيرت الطبيعة الاستعمارية لتلك الدول؟.
الواقع أن العالم قد تغير، والثورات التي قد تحدث وبأشكال مختلفة ضد الاضطهاد والفاقة والمرض والحاجة إلى أي شيء يغير من نمطية الواقع المتردي معيشياً، دفع تلك القوى لإيجاد نوع جديد وأكثر قبولاً من الاستعمار بشكله القديم النمطي المباشر، فالمساعدات التي يقدمها الغرب لـ»العالم الثالث» باسم التعاون، ومن أجل القضاء على التخلف، وسد الفجوة المتسعة مع الزمن بين الدول لا تؤدي في الحقيقة إلا إلى تثبيت هذا التخلف، فالتعاون الدولي له وجهان: الأول لوضع هذه الدول «ظاهريا» على طريق التنمية، والثاني وهو الأهم والحقيقي إحكام الطوق حول تلك الدول ومنعها حتى بالحد الأدنى من تغيير نمطية الواقع المتردي المفروض عليها.
يمكن القول: إن التخلف متلازمة لتشكل النظام العالمي الجديد، فهي مرتبطة بتقسيم العالم اقتصادياً من منظومة العالم الصناعي، وجغرافياً من الدول الكبرى ذات الفكر الاستعماري، هذا التقسيم يتطلب بقاء دول العالم الثالث ضمن بيئة طرية «رخوة» اقتصادياً وتعليمياً، وحتى اجتماعياً، والعمل على حرمانه من التطور، وخلق ما يسمى» النمو قي التخلف».
فقد ظهر في القرن العشرين ما اصطلح على تسميته اشتداد صقيع الحرب الباردة، الأمر الذي يمكن أن ينتهي بمواجهة حتمية بسبب الطموح الزائد للدول، وهذا ما نشهده حالياً في بعض المواجهات بين الدول والتي تحدث بالوكالة.
فالدول تبحث عن ساحة لتصفية حساباتها المتخمة والمؤجلة، ولا أنسب من الجغرافيا الواسعة لدول العالم الثالث لتكون مسرحًا لتلك التصفيات.
ختاماً .. السؤال المكرر ما السبيل إلى كسر هذا الواقع النمطي المترسخ في الأذهان للخروج من دائرة التخلف، ومحاولة خلق معادلة جديدة قائمة على الموازنة بين القدرة على مواكبة تغيرات العصر للوصول إلى مجتمعات مستقلة اقتصاديا،ً وقادرة على خلق واقع أفضل للعيش في ظل صراع محموم على مقدرات العالم حتى على الهواء.. كل ذلك في حده الأدنى على الأقل؟. 
           

العدد 1148 –  20-6-2023  

آخر الأخبار
آليات لتسهيل حركة السياحة بين الأردن وسوريا دمج الضباط المنشقين.. كيف تترجم الحكومة خطاب المصالحة إلى سياسات فعلية؟  قمة المناخ بين رمزية الفرات والأمازون.. ريف دمشق من تطوير البنية الصحية إلى تأهيل المدارس   زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن.. تفتح آفاقاً جديدة للتعاون الاقتصادي     تحسن ملحوظ في سوق قطع غيار السيارات بعد التحرير  "إكثار البذار " : تأمين بذار قمح عالي الجودة استعداداً للموسم الزراعي  دمشق تعلن انطلاق "العصر السوري الجديد"   من رماد الحرب إلى الأمل الأخضر.. سوريا تعود إلى العالم من بوابة المناخ   الطفل العنيد.. كيف نواجه تحدياته ونخففها؟   الجمال.. من الذوق الطبيعي إلى الهوس الاصطناعي   "الطباخ الصغير" .. لتعزيز جودة الوقت مع الأطفال   المغتربون السوريون يسجلون نجاحات في ألمانيا   تامر غزال.. أول سوري يترشح لبرلمان آوغسبورغ لاند محاور لإصلاح التعليم الطبي السوري محافظ حلب يبحث مع وفد ألماني دعم مشاريع التعافي المبكر والتنمية ابن مدينة حلب مرشحاً عن حزب الخضر الألماني خاص لـ "الثورة": السوري تامر غزال يكتب التاريخ في بافاريا.. "أنا الحلبي وابنكم في المغترب" سوريا تفتح نوافذ التعاون العربي عبر "معرض النسيج الدولي 2026"  رفع العقوبات إنجاز دبلوماسي يعيد لسوريا مكانتها ودورها الإقليمي دعماً للإعمار.. نقابة المهندسين تؤجل زيادة تكاليف البناء