الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
في رائعة المخرج العالمي رومان بولانسكي ( الكاتب الشبح ) الفيلم الذي فاز بمهرجان برلين بعدة جوائز، يسأل رئيس الوزراء البريطاني السابق المفترض في الفيلم- والمقصود به كان طوني بلير- الكاتب الذي جاء للقائه لإنجاز سيرته الذاتية بحسب الاتفاق مع دار النشر المرموقة: «من أنت؟» فيجيبه الكاتب: «أنا شبحك». «كاتب شبح» المسمى الخاص بالكتّاب الذين يكتبون سير الزعماء والشخصيات الاعتبارية، وصفة الشبح صفة لصيقة بهم لأنهم يعملون في الخفاء، ولا يظهر اسمهم على الكتاب، بل يقوم بتأليفه بعد أن يزود بالمعلومات، أو نسخة أولية يقوم بكتابتها مباشرة صاحب المذكرات، وليقوم الكاتب الشبح بإعادة كتابتها والبحث عن نقاط القوة فيها وإبرازها وإضفاء درامية ما على الأحداث، والتنويع في السرد وما إلى هنالك، مما يجعل الكتاب مغرياً بالقراءة، وقادراً على تمرير ما يود صاحب المذكرات تمريره بيسر ومتعة..مصطلح لا زال يتردد بخجل في عالمنا العربي، ويبقى ضمن دائرة الشائعات الصعب التحقق منها.
وقضية الكاتب الشبح أو كاتب الظل كما هو متعارف على تسميته في الأوساط الأدبية العربية ليست حديثة العهد.. فقد أثار أحد الكتاب البريطانيين عام 1819 في مقال نشره في أحد المجلات البريطانية قضية هزت الرأي العام نسب فيها حسب اعتقاده أعمال وليم شكسبير ل كريستوفر مارلو وعلى أثر ذلك أكد آخرون الفكرة ذاتها في دراسات لاحقة، مؤكدين أن من كتب أعمال مارلو وشكسبير شخص واحد.. وفي الرواية أن الشاعر والمسرحي شكسبير توارى عن الظهور خلال فترة تواجد كريستوفر مارلو على المسرح البريطاني.. وبعيد فترة قصيرة من وفاة مارلو ظهر شكسبير.. وحاول العديد من النقاد والباحثين تناول نظرية الكاتب البديل في دراسات وأعمال عديدة، استهلها الكاتب ويلبور.جي.زيجلر، في مقدمة روايته» إنه مارلو: قصة سر الثلاثة قرون» وساند نظريته تلك هنري واترسون، الفائز بجائزة بوليتزر من خلال سيناريو متخيل يؤكد أن مارلو هو من أبدع كافة أعمال شكسبير، أما أقوى الدراسات التي تناولت نظرية مارلو، كانت ل كالفين هوفمان، الذي أسس فرضيته على التشابه الكبير في أسلوب الكاتبين.
وأيضاً واجه الكاتب المسرحي الفرنسي موليير تهمة الاستعانة بكاتب شبح ويدعى كورنيي وقد نُسب إليه العديد من أعمال موليير واستهل هذا الجدل بيير لويس عام 1919 في مقال له عرض فيها نظريته مؤكداً من خلالها حدوث ( خديعة أدبية ) من خلال استغلال موليير لجمهوره وعشاق أعماله لكاتب آخر خفياً يرجع له الفضل في كتابة العديد من أعماله.. وعاد هذا الجدل للظهور عام 2000 من خلال دراسات علمية دقيقة رصدت التشابه الكبير، الذي يصل حد التطابق بين بنية ومفردات الكاتبين.
ومن المعروف لدى الأوساط الأدبية أن الكاتب الفرنسي الكسندر دوماس لم يكن سينال تلك الشهرة الأدبية الواسعة لولا تعاون حوالي أربعين شخصاً معه يطلقون عليهم في فرنسا تسمية ( عبد أدبي- nègre littéraire) – ومؤخراً صدر في فرنسا قرار استبدال هذا المصطلح الذي تفوح منه رائحة العبودية الكريهة بمصطلح ( كاتب معاون ) – وكان من بينهم ( جيرار دي نيرفال أو تيوفيل غوتييه ) الذي استغل موهبتهم الأدبية واحتكرها دون وازع أخلاقي.. وإن كان أحدهم يستحق العدالة أخيراً فهو اوغست ماكيه، الذي خيم ظله على روايات انتشرت باسم الكسندر دوماس مثل 0 الفرسان الثلاثة ) و( الملكة مارغو) ( بعد عشرين عاماً ) و ( الكونت مونت دو كريستو ) وكثير من الروايات.
الغريب أن ظاهرة الكاتب الشبح تطورت بشكل مذهل بمرور الزمن، حتى أن هناك العديد من المواقع الإلكترونية التي يعلن فيها هؤلاء الأشباح عن أنفسهم وخدماتهم ومقابلها.. ووراء الكتب الأكثر مبيعًا يختفي أحيانًا أسماء أولئك الذين يسمون بالكتاب الأشباح، هؤلاء الرجال أو النساء الذين «يقرضون» أقلامهم للمؤلفين في النور.. يحظى «كتاب الأشباح الأدبيون» المستخدمون في الروايات أو السير الذاتية بشعبية كبيرة.. وظيفة الظل التي يمكن أن تؤتي ثمارها الكبيرة..وربما يذكرونهم في كتبهم باسم ( كتاب متعاونين ).
في صحيفة اكسبريس الفرنسية التي نشرت تحقيقاً حول تلك الظاهرة – ألخص بعضاً مما جاء به – يقول دان فرانك، الذي نشر أكثر من خمسين كتاباً بصفة كاتب شبح « غالباً ما نرمي المسودات « مؤكداً أنه لا يكتب سوى السير الذاتية أو أعمال لشخصيات سياسية أو نصوص طبية هنا لا مجال للنفاق – حسب رأيه- أما كتابة الروايات فيرفضها لأنها عملاً غير نزيه. ويعترف أنه لا يكره ويزدري هذا العمل الذي يعيش عليه منذ عشرات السنين.. ويؤكد باتريك رامبو ( الكاتب الشبح ) « في كثير من الأحيان أجد نفسي في موقف المدافع عن رواية أمام أحد ممن كتبت لهم والأمر مبهج» ومدهش أن نرى أولئك المحترفون يواجهون بروح الدعابة والتعلق الشائعات التي تطالهم.. هؤلاء الكتّاب لا يسرقون أعمال غيرهم يكرسون أنفسهم لأعمالهم ولكنهم يحتفظون بذكريات مبهجة لمهنة جعلتهم يعيشون منها عيشة لائقة.. متخلين كلياً عن تخليد أسمائهم على الكتاب « نحن لا نقتل الدجاجة التي تبيض لنا ذهباً وبالمقابل لا تزعجنا الشائعات بشكل نترك الشكوك تتغلغل.»
ومن جانبه يستنكر برونو ديساريتش مهنة الشبح في كتابه بعنوان ( الآلة الكاتبة ) وبينما يعمل الآن أستاذ فلسفة يروي في ( فن الشبح ) مهنته عندما أعار قلمه في الظل وكشف أنه كتب لكثيرين.. ولا يخفي أنها مهنة مربحة عندما يحقق الكتاب نسبة مبيعات مرتفعة» عندما لا يمكنني أن أكتب باسمي كنت أوافق على العمل كمساعد.. واعتبر ذلك رائعاً لأنه كان يتيح لي الكتابة دون طرح الكثير من الأسئلة.. نعم إنها مهنة فيها شكل من أشكال الكسل».
وفي السياق ذاته كشفت جيني إردل في كتابها ( الكتابة الشبحية ) الصادر عام 2004 أنها كانت الكاتبة الفعلية لغالبية الكتب التي صدرت باسم نعيم عطا الله الناشر الفلسطيني حتى باتت الكاتبة الفعلية لأفكاره وتبرر موافقتها على هذا العمل بأنها كانت بحاجة إلى المال كونها أماً لثلاثة أطفال صغار ولم يكن دخل زوجها يكفي مصاريف العائلة وهو مبرر وجده أستاذها الذي شكت له همها ذات مرة أشبه بالعمل ( بائعة هوى ) ولكن الفرق هنا أنها تبيع أفكار في عالم النشر.
ولكن المفارقة الأغرب هي الفضيحة التي شهدتها الأوساط الأدبية البريطانية.. فعندما فوجئت الكاتبة الشبح ربيكا فارنوورث بضخامة حجم مبيع الروايات الأربع التي كتبتها باسم عارضة الأزياء كاتي برايس والتي فاقت مبيعاتها مبيعات الروايات المرشحة لجائزة ( البوكر ) ورأت ربيكا أنها أولى بهذا النجاح قررت أن تكشف عن نفسها وأصدرت رواية بعنوان ( فالانتاين ) وللغرابة أن فرضيتها بالنجاح كانت وهماً.. ولتكتشف أن رواج الروايات والسير الذاتية التي كتبتها في السابق قامت على أساس أنها تخص عارضة أزياء مشهورة وليس على أساس أدبي.
العدد 1148 – 20-6-2023