الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
باريس التي تدعي أنها عاصمة النور والحريات لم تكن في يوم من الايام إلا دولة استعمارية، تاريخها في العالم معروف، ولاسيما في أفريقيا، وهاهو الأدب يعود ليحفر في هذا التاريخ ويقدمه للأجيال لئلا تنسى، والأدباء الأفريقيون هم الأقدر على ذلك ومنهم الروائي الغيني تييرنو مونيمبو، الذي شاءت الصدف أن يولد في شهر نيسان من سنة 1947، وقد تحدث عن وحشية الاستعمار الفرنسي وسوء توظيف الأفارقة، من خلال روايته «الملك كاهيل»، واسترخاصهم من خلال السفن التي كانت تنقل الرقيق منذ القرن التاسع عشر، حاملة الزنوج إلى المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد.. وركزت غالبية روايات تييرنو على مرحلة ما قبل الاستقلال وبعده، حيث يعود إلى أبطال المقاومة الأفارقة، وأشهرهم آدي با، بطل تحرير سينغالي قاد جماعة من المقاومين الأفارقة خلال الحرب العالمية الثانية في منطقة الفوغ شرق فرنسا بعد أن دُفع للمشاركة في تلك الحرب قسراً نظراً لاستعمار الفرنسيين لبلاده واقتياده مع مجموعة من السينغاليين والغينيين والإيفواريين، للدفاع عن المستعمرات الفرنسية..
وفي المغرب، كانت الدار البيضاء، وبالتحديد ثكنة عين البرجة، تعج بالجنود الأفارقة السود من جنسيات أفريقية مختلفة، يتحركون بأوامر المقيم العام وقيادات الجيش.. وكشف كتاب «الحركة الوطنية في الشمال ودورها في استقلال المغرب والجزائر» لحمو الإدريسي السيدالي عن الجنود الأفارقة العاملين تحت إمرة الاستعمار الفرنسي، وأوضح أن معارك جيش التحرير كشفت عن حجم الانتدابات القادمة من بلدان وراء الصحراء، مشيراً إلى معركة جند لها الفرنسيون جيشاً قوامه 500 جندي سينغالي، «تصدينا لهذه الفرقة بنيران بنادقنا ورشاشاتنا، فاضطرت إلى اللجوء إلى الجيش الإسباني الذي كان مرابطا على الحدود.. فشددنا عليهم الحصار، والحراسة، فوجدناهم مسلمين يصلون، ولذلك أخلينا سبيلهم على أساس أن يرجعوا إلى ثكناتهم لا ليحاربوننا، فرجعوا إلى مراكزهم»، لكن أكبر عدد من هؤلاء الجنود كان يستقر في ثكنة بالدار البيضاء تدعى ثكنة عين البرجة..
تقنين وتقريب البغاء من المستعمرين لا يمكن ضمان الحد الأدنى من استقرار الجيوش الاستعمارية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، دون توفير جانب من المتعة الجنسية للمستعمر وأزلامه.. لذا فكر الفرنسيون في طريقة لطرد الملل من نفوس أفراد جيشه، وجعلهم يتأقلمون مع المناخ الجديد.. وقد بدأت الفكرة بخلق ملاه ليلية الغاية منها الترويح عن نفوس المستعمر وكل الغرباء الذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام خصم لم يسئ إليهم. كما تطور الأمر إلى تشييد دور الدعارة من أجل تلبية الرغبات الجنسية لجنود الاحتلال، بعد أن خصصت الملاهي المصنفة والمراقص العصرية للضباط وكبار المسؤولين ولعلية القوم الفرنسي، بعد أن جلبت السلطات الاستعمارية راقصات من دول أوربية.. وعمدت فرنسا إلى تعزيز حضورها بفتح ملهى ليلي ودور للدعارة، وازدهرت عمليات الوساطة في هذا المجال، الذي أصبح ملاذاً للراغبين في متعة الجسد.. وأمام الإقبال الكبير على مرافق تصدير المتعة، شرع المستعمر في تجنيد عاهرات من مختلف الديانات والأجناس الغاية منها تشجيع الدعارة التي كانت تشكل مورداً مالياً كبيراً ليس فقط بالنسبة لممتهنات البغاء، بل للسلطات المغربية التي كانت تجد متعة في تدبير الشأن الخاص للمواطنين والوافدين، فهم سواسية أمام تجارة الجسد.. كما أنهم حولوها إلى ريع «بغائي» يوفر مبالغ مالية مهمة. لقد أعاد إلى أبطال المقاومة الإفريقية أمجادهم الحقيقية في رواياته بعد أن حرمتهم الآداب الفرنسية هذا الحق.. وقد حصد عدة جوائز أدبية منها جائزة رينودو عام 2008 لروايته «الملك كاهيل» الملحمة الإفريقية التي علقت في ذاكرة قراء ونقاد الأدب الفرانكوفوني عن الملك الفرنسي أوليفيه دوسند يريفال خلال القرن التاسع عشر في فوتاجالون موطن تربية المواشي وزراعة الأرز وأشجار النخيل والموز في غينيا والتي تطل على المحيط الأطلسي حيث كانت تحط بواخر تجارة الرقيق منذ القرن التاسع عشر حاملة الشباب الزنوج إلى المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد.. وكم أثارت ثروات تلك البلاد المعدنية منها كالألماس والحديد والطبيعية كالأخشاب والمطاط والفاكهة الاستوائية أطماع الفرنسيين الذين احتلوا ساحل العاج(جنوب غينيا) والسنغال قبل أن يمتد غزوهم العسكري من غينيا إلى جاراتها الاستوائية الأخرى.. وتكاد غالبية روايات تييرنو تغطي تلك المرحلة ما قبل الاستقلال وبعده حيث يعود إلى أبطال المقاومة الأفارقة وأشهرهم آدي با بطل تحرير سنغالي قاد جماعة من المقاومين الأفارقة خلال الحرب العالمية الثانية في منطقة الفوغ شرق فرنسا بعد أن دفع للمشاركة في تلك الحرب قسراً نظراً لاستعمار الفرنسيين لبلاده وسوقه مع مجموعة من السنغاليين والغينيين وشبان ساحل العاج للدفاع عن المستعمرات الفرنسية عند خط الاستواء وفي القارة الأوروبية لمواجهة زحف قوات المحور(إيطاليا-ألمانيا- اليابان).
ثم ظلت باريس تتجاهل هؤلاء الجنود المجهولين رغم استشهادهم في سبيل تحريرها من النازيين لا بل تنكرت لهم إلى أن جاء أديب غينيا المتوج مونينمبو ليعيد إحياء ذكراهم في رائعته«المقاتل الأسمر» التي صدرت قبل أيام عن دار «سوي» باللغة الفرنسية وفي الرواية إدانة كبيرة لتدخل القوى الغربية في القارة السمراء وتعرية الأهداف الخفية للفضائح التي يفجرها المستعمرون الحاقدون للنيل من سمعة المسلمين ورموزهم سواءً كانوا قادة مقاومة ضد النازيين على غرار آدي با أم نساء متعبدات اتهمن ظلماً بارتكاب الفواحش..
يقول مونينمبو: ويتمترس الاستعمار الغربي خلف موبقات يفتعلها لتنفيذ مخططات تخدم مصالحه باستمرار.. وفي المراجع التي اعتمدها الأديب الغيني لكتابة روايته عن آدي با وجد وثائق تعود لهذا الزعيم السنغالي المقاوم زعيم حمل في أعماقه شجاعة أبناء قرى خط الاستواء الإفريقية ليواجه النازيين كما يفعل مع التماسيح والأفاعي والحيوانات المفترسة في الغابات الاستوائية، واستطاع آدي بالتخلص من مطاردة الألمان له مع جماعته في الألزاس واللورين قبل أن يقع في أيديهم ويحكم عليه بالموت في أربعينيات القرن الماضي، وخلال تلك المرحلة لم تشهد مقاومة الحلفاء في صفوفها أبطالاً من العرق الأسود استطاعوا التصدي لقوات المحور سوى آدي با….
هذا الاستثناء الذي تنكر الغربيون لبطولاته كي لا ينكشف أمرهم ويظهروا على حقيقتهم بينما سعير الحرب العالمية الثانية يكوي مجتمعاتهم الأوروبية في ذلك الحين.. وكانت باريس آنذاك تعيش أضغاث أحلام عراب الاستعمار الفرنسي جول فيري(1832-1893) الذي شجع احتلال قواته لكل من تونس والكونغو وفيتنام ودفع بالمقاتلين الذين نقلوا من مستعمرات فرنسا إلى الخطوط الأمامية للدفاع عن أمجادها الغابرة.. ويتوقف مونينمبو مطولاً في رواية آدي با عند تقديم المقاتلين ودور الإفريقيين في مقاومة النازيين حينذاك.. وكان يعمل على نشر رواية جديدة حول معاناة وطنه غينيا من الاستعمار وذلك من خلال سيرة فتاة مع أسرتها تنتمي إلى منطقة متوترة..
يقول مونينمبو وفي نيجيريا المجاورة خاصة في المنطقة الشمالية تنتشر اليوم زبانية من المتطرفين المدعومين من الاستخبارات البريطانية والفرنسية حيث تزودهم تلك الأخيرة بالسلاح لإشعال الفتن والحروب الأهلية باسم الدين.. وكان أديب غينيا قد نشر قبل سنوات رواية عنوانها«فولبيس» نسبة للشعب الذي سكن فوتاجالون خلال القرن السابع عشر وستتناول روايته القادمة هذا المجتمع الرعوي بالدرجة الأولى وما تعرض له من اضطهاد واستبداد المستعمر الفرنسي.
العدد 1150 – 4-7-2023