الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
كنت أحسب أن الشعر الضاحك أو الساخر أو الطريف – سمه ما شئت – هو حكر على عصر الانحطاط ، ولكن منذ أيام كنت أقرأ كتاب (رواد النهضة الحديثة) تأليف مارون عبود. فإذ بي أمام عدد من شعراء عصر النهضة قد أدلو بدلوهم في هذا النوع من الشعر الذي أطلق عليه شاعرنا الكبير سليمان العيسى (الشعر الحلمنتيشي).
وقبل أن أخوض فيما نظمه هؤلاء الشعراء من هذا الشعر، لا بد من تعريف القارئ، ما المقصود بعصر النهضة. فبعد نحو ثلاثمئة من السنين في ظل الحكم العثماني، عانى العرب من سبات أدبي طويل، لم يظهر فيه شاعر – إلا ما ندر- وفي مطلع القرن الثامن عشر، بدأت تظهر بعض الأصوات الأدبية، والشعرية منها بشكل خاص، لتشكل بداية نهضة أدبية عربية وخاصة في لبنان ومصر، ثم بعد ذلك في سورية. وكان لابد لأي شاعر من أن يدلو بدلوه في الشعر الضاحك إلى جانب أغراض الشعر الأخرى.
ابن الإفرنجية شاعر عاش قي أواسط القرن الثامن عشر. من بلدة اهدن اللبنانية. انتقل أهله إلى حلب أيام السلطان الغازي سليم خان الثاني أواسط القرن السادس عشر. نظم الكثير من المقاطع الشعرية الساخرة. له كتاب (المجموع المنتظم من فرائد الكلم)، أودعه الكثير من الطرائف والأخبار والفقرات النثرية والمقاطع الشعرية من نظمه ونظم والده أنطوان فرنجية وبعض شعراء عصره، وانتهى من تأليفه عام 1780.
القهوة من أسماء الخمرة عند العرب، والقهوة أيضاً هي البن وابن الإفرنجية بتحدث بلسان بلسان قهوة الخمرة تهجو قهوة البن:
سمعت لسان الحال في قهوة الطِلا
تقول هلمّوا اسمعوا واسمعوا نصَّ إخباري
فباسمي تسمَّت قهوة البن في الملا
ولكنها لم تحكِ بالفضل أخباري
فمن كذبها قد سوّد الله وجهها
وعذبها بعد الإهانة بالنار
ومن طرائف ابن الإفرنجية الشعرية هذان البيتان اللذان يُقرأان طرداً فيكونان مدحاً، وإذا قرئا عكساً استحالا هجاء:
عدلوا فما ظُلمت بهم دولٌ سعدوا فما زلت بهم قدمُ
بذلوا فما شحّت لهم شِيّمٌ رشدوا فما زالت لهم نِعمُ
وإذا ما أعدنا قراءتها من الأخير إلى الأول تصبح هجاء، يقول:
قدمٌ بهم زلت فما سعدوا دول بهم ظلمت فما عدلوا
نِعمٌ لهم زالت فما رشدوا شِيَمٌ لهم شُحت فما بذلوا
وقال يصف ليال ليلاء قضاها بين البعوض والبراغيث:
ولـيـل بِتّــهُ رهــن اكنئابٍ ألاقـي فيه أنـواع العـذابِ
إذا شرب البعوض دمي وغنّى فللبرغوث رقص في ثيابي
وفي ذلك قال أيضاً:
ثلاث باءات بلينا بها البقُّ والبرغوث والبرغشُ
ثلاثةٌ أوحش ما في الورى ولست أدري أيها أوحشُ
وقال في عجوز يصبغ لحيته كي يبدوا أصغر عمراً:
قل للذي يطمع في صبغته بِرَدِّ ما قد فات من صبوتهْ
هب أنه أنكر ما لم يكن يكفيه أن يكذب في لحيتهْ
وقال أيضاً يصف بشاعة صوت مطرب:
قد دهاني ما دهاني من ثقيلٍ في الأغاني
قلت إن غنى عراقاً ليتني في أصفهانِ
نقولا بن يوسف الترك الإسطمبولي (1763-1828) هو شاعر أصله من بلاد الترك من أسرة يونانية ومولده ووفاته في دير القمر في لبنان.سافر إلى مصر واستخدم كاتباً في حملة نابليون على مصر، وعاد إلى لبنان فخدم الأمير بشير الشهابي، وكان للأمير كاتباً وشاعراً ونديماً. وله في مدحه قصائد. وعمي في أواخر أعوامه، فكان يملي ما ينظمه على ابنته وردة.
دلَّ نقولا الترك بدلوه في الشعر الساخر أو الضاحك. من ذلك أنه كان يملك شروالاً وعمامة، بليا من كثرة الاستعمال لسنوات كثيرة، ووصل الأمر بهما أن يطلبا منه عتقهما فقد هرما، في ذلك يقول:
وشروالي شكا عتقاً وأمسى يراودني العِتاق فما عتقتُ
وكم قد قال لي: بالله قِلني وهبني كنت عبداً وانطلقتُ
أما تدري بأني صرت هَرْماً وزاد عليَّ أني قد فُتقتُ
فدعني حيث قلَّ النفع مني وعاد من المحال ولو رُتقْتُ
ولا تعبأ بتقليبي …لأني بعمر أبيك نوحٍ قد لحقتُ
ولم يبرح يُجدد كل يومٍ عليَّ النعي حتى قد قلقتُ
فقلتُ له عُتقتَ اليومَ مني لأني في سواك قد اعتقلتُ
فأشعرتِ العمامةُ في مقالي له فاستحسنت ما قد نطقتُ
فراحت وهي تشدو فوق رأسي لي البشرى إذن وأنا عُتقتُ
ومن طرائفه الشعرية قوله:
عجبٌ عجبٌ عجبٌ عجبٌ قططٌ سودٌ ولها ذنبٌ
تصطاد الفار من الأوكارِ وتطيح الحيط فتنقلبُ
محاكياً فيها أبيات الشاعر ابن سودون من عصر الانحطاط التي يقول فيها:
عجبٌ عجبٌ هذا عجبٌ بقرا امشي ولها ذنبٌ
ولها في بزبزها لبن يبدوا للناس إذا حلبوا
ونظم مناظرة شعرية أجراها بين الزيت واللحم، كل منهما يُظهر قيمته الغذائية وأهميته على الآخر، يبدأ الزيت فيها بالفخر فيقول:
أنا الزيت الذي كلٌ إليه بمحتاجٍ ووصفي قد تنوّعْ
فنوري شاهدٌ في عِظَمِ فضلي إذا ما في الظلام الليل لعلعْ
وكم قوَّمت من عرج وكم قد أقمت مكسّحاً وشفيت أكنعْ
ومني يكسب الصابون عرفاً زكياً بشبه المسك المضوَّعْ
به قد نغسل الأدران طُراً عن الأبدان والملبوس أجمعْ
وكم لي من مزيّات تناهت فضاق بوصفها الشرح الموسَّعْ
ويرد اللحم مظهراً فضله ومزاياه فيقول:
فقال اللحم مفتخراً عليه لقد وسَّعتَ ذا الشدق المخلَّعْ
فشحمي في الليالي عنكَ يُغني ضياهُ بل وفي الأشراق يسطعْ
فريحك كيفما حاولت تُردي ودهنك أينما قد حلَّ بقّعْ
وأكلك منكرٌ عتد الأطبا لأنك محرق للكبد تلذعْ
وإما أن تسلْ عني فإني أنا اللحم الذي قدري ترفَّعْ
ومطبوخي لذيذٌ مُستطابٌ شهيُّ الأكل طاب لكلِّ مبلعْ
كذلك طعمُ أمراقي شفاءٌ بقوّي كل من منه تجرّعْ
وأتواع البقول وكل نبتٍ نما للأكل لي خدمٌ وتُبّعْ
ولي دسمٌ يُذَّكي كل نوعٍ مِنَ الطبخ الذي لي فيه إصبعْ
لذاك ترى ملوك الأرض طراً لهم في مأكلي ولعُ ومطمعْ
فَعُدْ يا زيت عمّا أنت فيه ومن هذا الجدال الشاذ دعْ دعْ
العدد 1150 – 4-7-2023