الثورة- ياسر حمزة:
عصفت وسائل الاتصال الجديدة بكثير من عناصر الترفيه القديمة, وأولها خيال الظل ثم صندوق العجايب وآخرها الحكواتي.
كانت المقاهي إحدى وسائل الترفيه الليلية قبل ظهور التلفزيون, ويتوافد إليها الناس في رمضان أكثر من بقية الأشهر ,وكان الحكواتي أبرز عناصر الجذب إليها.
فالحكواتي أو الراوي أو القصّاص أو القاص، هو شخص امتهن سرد القصص، في المنازل والمحال والمقاهي والطرقات، كان يحتشد حوله الناس قديماً، كان لا يكتفي بسرد أحداث القصة بتفاعل دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت.
وما يميز حكواتي الأمس في مقاهي مدينة دمشق أيضاً تلك النفحة من القيم والفضائل التي كانت تتسم بها شخصيات رواياته، وكانت تغذي نفوس المتلقّنين وعقولهم ولاسيما الشباب منهم.
والحكواتي شخصية واحدة جسدها كثيرون على مر عقود من الزمن، وهي مهنة عرفتها بلاد الشام منذ مطلع القرن الثامن عشر، وحظيت بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي في هذه البلاد واشتهرت مدينة دمشق شهرة كبيرة بالحكواتي فلا يوجد مقهى من مقاهي مدينة دمشق التراثية قديما الا وبه حكواتي ,يستمع الناس الى حكاياته كحكاية الظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة و عنترة وغيرها الكثير.
قصص وروايات طويلة مع الحكواتي في دمشق الذي طالما ارتبط اسم الحكواتي بالمقاهي الدمشقية العريقة، والذي لم يعد مجرد شخصية أو مهنة أو حرفة برزت فيها خلال فترة معينة من الزمن، حالياً الحكواتي من التراث السوري والتقاليد التي أصبحت من الماضي.
مهنة الحكواتي كانت وسيلة تسلية جماعية وفي الوقت نفسه وسيلة تثقيف وترسيخ للقيم والأخلاق التي تحلى بها أبطال القصص والروايات التي كان يسردها الحكواتي، ولو كانت غير واقعية.
كان عمل الحكواتي يمتد يومياً على فترتين: بين صلاتي المغرب والعشاء وهي فترة قصيرة لا تزيد على الساعة، وبعد صلاة العشاء وتمتد أحياناً حتى ساعات الفجر الأولى. فيقف الحكواتي مستعيناً بكتاب يصطحبه معه بشكل دائم، ويبدأ سرد الرواية أو الحكاية التي غالباً ما تكون عن شخصية تاريخية، وتدور جميعها عن البطولة والشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم.
وفي نهاية كل حكاية لا بد وأن ينتصر الخير الذي يمثله بطل الرواية.
ويبقي الحكواتي جمهوره في تشوق دائم لمعرفة وقائع القصة أولاً بأول، وإذا ما طالت الحكاية لليال وأيام، فإنه كان يحرص على أن تنتهي أحداث القصة كل ليلة بموقف متأزم والبطل في مأزق حتى يحمّس المتلقي ويجعله متشوقاً لسماع بقية الأحداث وكيف سيخلص البطل نفسه من المأزق.
وما يزيد في الحماسة والتشويق أن الحكواتي كان يقوم بتجسيد شخصيات روايته وكلامهم بتحريك يديه وترفيع صوته أو تضخيمه.
والمفارقة في الأمر أن بعض جمهور الحكواتي كان يرفض الذهاب إلى بيته قبل أن يستمع إلى بقية القصة ويطمئن إلى أن بطله اجتاز محنته.
ووصل الأمر إلى درجة أن أحد المستمعين لم يستطع أن يصبر إلى اليوم التالي، فلحق بالحكواتي إلى بيته ليعرف بقية القصة.
أما أجرة الحكواتي فكان يتقاضاها من صاحب المقهى الذي يتولى تحديد بدل الدخول إلى مقهاه بما في ذلك المشروبات، لكن ما يجود به رواد المقهى على الحكواتي كان يشكل مصدر دخل جيدا ولاسيما إذا كان الزبون راضيا عن النهاية التي ختم بها الحكواتي مصير بطل القصة ,وعمل الحكواتي كان يتواصل على مدار السنة، لكن خصوصيته بالنسبة لشهر رمضان مرتبطة بان مواضيعه تتناسب مع الشهر الفضيل والقيم التي يمثلها.
و الحكواتي ظاهرة مشتركة تميزت بها المدن الكبرى في بلاد الشام وفي مقدمتها دمشق وحلب وحمص وطرابلس وبيروت وصيدا وحيفا, وكان لكل مقهى حكواتي خاص به.
وقد خف الاهتمام الحكواتي بعد ظهور الإذاعة عندما أصبح الراديو أحد عناصر الجذب إلى المقهى, ثم اختفى الحكواتي تماما بعد انتشار التلفزيون, ثم عاد في السنوات الأخيرة في المقاهي ذات الطابع التراثي المتوضعة في الأحياء القديمة, ولكن لم يعد له ذلك الألق السابق, ولم يبق سوى حكواتي مقهى النوفرة الواقعة في شرق الجامع الأموي بدمشق.
وظهر الحكواتي في بعض المسلسلات والمسرحيات الشامية, وأضيف إلى سهرات التلفزيون الرمضانية.
و اشتهر في دمشق عدد ممن عمل في مهنة الحكواتية, ووصلت شهرة بعضهم إلى ذكرهم في الكتب والصحف, وبعد ظهور الإذاعة والتلفزيون هجرها أصحابها لأنهم فقدوا السامعين لهم.
ومن أشهر من عملوا في هذه المهنة في القرن الثامن عشر سلمان بن حشيش وقد ذكره البديري الحلاق في كتابه الشهير حوادث دمشق اليومية,
وأشار إلى أن القاصّ الشعبي سلمان بن حشيش كان في أيامه فريد عصره ووحيد زمانه, وكان يحكي سيرة الظاهر بيبرس وعنترة وسيف بن ذي يزن ونوادر غريبة باللغة التركية والعربية ومع ذلك كان أميا.
ويذكر عبد الغني العطري في أوراقه الصحفية اسم حكواتي مقهى الحدادين في باب الجابية أسمه أبو عادل الذي ورث مهنة الحكواتية عن أبيه وجده وظل يحكي في رمضان حتى أواخر الستينيات عندما سرق التلفزيون رواد المقاهي, وكان أبو عادل كما يصفه العطري يجلس على كرسي عال ويرشف من القهوة ليجدد نشاطه ويركز طربوشه ويبرم شاربيه ثم يمسك الكتاب ليتابع القراءة.