طفى على سطح الثقافة في الآونة الأخيرة بعض الطحالب الثقافية متنطعين للحديث بل والتنظير لقضايا تتعلق بالهوية والانتماء والوطنية وغيرها من مفاهيم وعناوين بدأت تفرض نفسها على المشهد الثقافي العربي وعلى مستوى الساحة الوطنية بعد الذي حدث خلال العشرية الأخيرة وما ترافق مع ما سمي الربيع العربي وتداعياته على الساحة العربية وما خلفه وطرحه من عناوين وتحديات تتعلق بقضايا الانتماء والهوية وتنازع الولاءات ضمن مصفوفة الانتماءات الفرعية والأصلية ناهيك عن الهوية القومية الجامعة.
ولعل ما ركز عليه بعض أولئك المتنطعين في كتاباتهم وندواتهم المسبقة الصنع في أهدافها ومراميها هو ثقافة الاتهام لكل من يحلل المسألة أو لنقل الظاهرة ويقرؤها بشكل علمي ومنطقي ويعيدها إلى أسبابها الجوهرية المتعلقة بطبيعة النظام السياسي وشكل الحكم ونهج السلطة ومفهوم الوطن والمواطنة وقضية الحرية وأشكال التعبير وقضايا العدالة والتنمية والحكم الرشيد وتداول السلطة وسيادة القانون والمشاركة في الحكم وإدارة الموارد، وكل ما يتعلق بمفهوم الدولة الحديثة دولة المواطنة وإلى جانب الابتعاد عن هذه المفاهيم الجوهرية في مسألة بناء الهوية والانتماء للوطن والأمة يلحظ المتابع للشأن الثقافي ما يدعيه هؤلاء المتنطعون من الحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ لينسجم ما يحملونه من حقد على العروبة ورموزها لتكتشف وبسهولة أنهم شعوبيون جدد متوهمين أن التاريخ عبارة (كومة أحجار)يعيدون تركيبها كما يرغبون ومن منظورهم الإيديولوجي الشعوبي وبما ينسجم مع انتماءاتهم وخرائط تفكيرهم الضيقة والتي تعمل لصالح دفتر شروط مشغليهم من أعداء الأمة التاريخيين.
إن العروبة انتماء وليست خياراً والكلام للسيد الرئيس بشار الأسد ما زلت أستعيده عشرات المرات كلما كان الحديث يتعلق بالهوية والانتماء والعروبة والإسلام، والكل يعلم أن العروبة أسبق من الإسلام تاريخياً،، فالعرب بوصفهم جماعة ثقافية وحضارية وعائلة لغوية تعود أصولهم إلى مئات السنين قبل الإسلام وسكنوا واستوطنوا المناطق الممتدة من شمال شرق العراق وهضبة الأناضول وبلاد الشام إلى مناطق اليمن والجزيرة العربية وغرب النيل وجنوبه، وأقاموا ممالك معروفة وحضارات لا تخطئها عين، وعندما جاء الإسلام ورسالته السمحة والإنسانية دان بها بعض العرب وبقي البعض الآخر على ديانته المسيحية أو غيرها من ديانات عرفتها المنطقة، ولعل من أبرز ما قام به العرب بعد الإسلام ونشر وانتشار الدين الجديد هو توحيد القبائل العربية وتحرير المناطق العربية من في بلاد الشام والعراق وهم المناذرة والغساسنة من الفرس والروم وإقامة امبراطورية عربية وإسلامية أمتدت من غرب الصين إلى شبه الجزيرة الايبرية استمرت بمسميات مختلفة لما يزيد على ثمانية قرون ونيف.
إن عروبة المنطقة لا تحتاج إلى إثبات فهي واقع قائم لغة وثقافة وجغرافية وتاريخاً ومشاعر إنها فعل ومركب حضاري والقومية العربية لا تنفي وجود قوميات أخرى ومفهوم الأمة أصلاً يحتمل ويحتوي مجموعات قومية أخرى كما هو حال الصين وروسيا وإيران وتركيا وإثيوبيا والهند وغيرها، وإذا كانت الأمة لم تستطع أن تحقق ذاتها السياسية ووحدتها، فهذا لا يعني انتفاء وجودها وعدم توافر شروط قيامها، وإنما لأسباب تتعلق بمايحيط بها من ظروف سياسية ونظام حكم وآليات تعبير تعكس إرادة الجماهير في إنتاج شكل ومضمون النظام السياسي وشرعيته ناهيك عن الظرف الدولي والبيئة المحيطة من أعداء وغيرهم وقوى مهيمنة دولية لا تسمح بإعادة إنتاج كيانات قومية لها شأنها وتاريخها ودورها إن أتيح لها أن تعبر عن ذاتها القومية.
إن القضايا المتعلقة بالانتماء والهوية الوطنية أو القومية لايمكن اختصارها بمواقف عابرة أو لحظات هاربة من التاريخ وإذا كان ثمة مواقف سلبية أو حالة ضعف في الانتماء الوطني أو تراجع في الروح الوطنية، فالمطلوب هو البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا المرض أو تلك الظاهرة السلبية، وليس التشكيك بمفهوم الوطن والأمة والمواطنة والولاء والتصويب على التاريخ، فثمة أسباب حقيقة تفسر ذلك منها مبدأ العدالة الاجتماعية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص ومفهوم المواطنة الحقة والشراكة في الحكم وقيادة البلاد وتكريس مفهوم الحرية والممارسة الديمقراطية وحرية التعبير والتفكير والكرامة الوطنية، فالشعور الوطني يضعف ويتراجع عند شعور المواطنين بأن النظام السياسي لا يتعامل مع المجمل الكلي الوطني بصورة عادلة وينتهج سياسات تنطلق من حسابات ضيقة فئوية أو جهوية أو محازبة، ويحول السلطة إلى تسلط وقمع ويستأثر بثروات البلاد دون توزيع عادل لها ويتعامل مع خيرات الوطن وكأنها مزرعة وليس وطناً ولا يحترم إرادة المواطنين ويضرب عرض الحائط بالرأي العام ويغلب الخاص عليه ويستقوي بقوى الخارج على الداخل وما يستجره كل ذلك من فقر وفساد وجهل ينتج تطرفاً وتآكلا في الروح الوطنية والانتماء.
لقد تعرضت الهويتان الوطنية والقومية على مستوى الساحة العربية خلال العشرية المنصرمة إلى اختبار تاريخي غير مسبوق من خلال ما سمي الربيع العربي، وتبين من خلال أحداثه وتداعياته ضعف الانتماء الوطني عند الكثيرين من أبناء الأمة، وهذا من وجهة نظري له أسبابه التي أشرت إليها وهي أسباب قابلة للعلاج والمعالجة عبر وصفة العلاج المعروفة للجميع وإلى جانب ضعف الشعور الوطني برزت الانتماءات الفرعية والخرائط الضيقة لتطغى على الهوية الوطنية فحدثت استقطابات طائفية وعرقية وجهوية كان يجب أن لا تحدث فتعدد الانتماءات لا يعني تعارضها أو تناقضها وتصادمها، وإنما تفاعلها لأن المجتمعات والجماعات الوطنية غالباً ما تتأسس على التنوع الديني والعرقي والمذهبي، فلا توجد دولة في العالم تقوم على عنصر أو عرق أو دين واحد، فالوطن والدولة جماعة سياسية حضارية ثقافية تقع تحت سقف القانون ومبدأ السيادة الوطنية والعدالة والغرم والغنم في تحمل المسؤوليات الوطنية والواجبات ولاسيما ما تعلق منها بالدفاع عن الوطن، فلا يجوز أن يتحمل عبء ذلك وفاتورته جماعة دون أخرى أو مكون دون آخر، فالخلاف السياسي أو مع النظام السياسي يجب ألا يتحول إلى خلاف مع الوطن وتآمر عليه، وهذه مسألة على درجة من الأهمية، وهنا تبرز مسألة الانتماء والولاء بأبهى صورها وآلية اختبارها.
إن ما جرى خلال السنوات العشر الماضية في أغلب البلدان العربية لم يكن هدفه إسقاط أنظمة فحسب وفي سورية تحديداً، وإنما إسقاط المنظومة الوطنية التي نشأ وتربى عليها الشعب السوري، وهذا بالتحديد ما لم يحدث، فبقي العقد الاجتماعي السوري متماسكاً، وإن كانت المنظومة التي نشأ عليها قد تأذت وهو ما يجب معالجته وتلافي أسبابه.