الثورة – رنا بدري سلوم:
لا تقف شاعريّة جميل حداد عند نص كلاسيكي منجز وزناً وقافية ولغة، إنما هي فضاءات أوسع وأرحب وأكثر اتساعاً وقدرة على الدّهشة.
هنا نستذكر كيف كان كبار شعراء الكلاسيكيّة- بدوي الجبل- مثلاً، قادرين على أن يستوعبوا في إبداعهم كل الموضوعات من الوجداني إلى الاجتماعي والسياسي إلى ما في ألوان الحياة، لم تضق بها بحور الشّعر بل كانت تعطيها المزيد من القدرة على الابتكار والتحليق والتكثيف..
هذا يعني أنّ العجز هو عند من لا يعرف ألف باء الشعر ومهيض الجناح في الموهبة.
الشّاعر جميل حدّاد في كل ما قدّمه مدهش حقاً من حيث القدّرة اللغويّة وطاقة الإيحاء وتجربة الحكاية أو القص الشّعري في القصيدة التي تنفتح على أوسع مدى.
من ألوان الحياة ينبض الشّعر “اجتماعي، سياسي، وجداني، مدح ، رثاء الخ”.
لم تضق قصيدته بأي لون من ألوان الموضوعات التي عالجها، وهو ابن الحياة التي حوّلها إلى روض من الشّعر.
فالقصيدة عنده هي لحظة القبض على جمر الحدث فإذا به يحيله إلى أتون الشّعر ليغدو جمراً لا يخمد في الموضوعات، “الطفولة، السنديانة، الأهل، الأحفاد، الوطن، الأمة العربيّة”، نراها في كتابه الثامن بعنوان “الخُضرة نسغ الحياة” إصدار دار البشائر.
إنه التجذّر بكل ما في الحياة من جمال وإبداع الخالق، والوطن يبدأ من حدود قريتهِ الخميلة الوادعة على أكتاف الوادي.. حمام القراحلة:
خرجت من فيئها أشكو مواجعه
لأن قلبي بها قد رام سكناها
فيها أحبّة تاريخي ومفخرتي
وفيها عش حياتي عاش يهواها
إليك حمام وعدا عشت أحفظه
منذ البعيد الذي أن تهنا ما تاها
بأن أموت على عهد به شغف
وأن أوارى بأرض كنت أهواها.
الأم وطن ولا ينسى الشّاعر الأم وأيام الطفولة والجذور وحنان الأم وخبز التنور:
أيا قلب صبرا فالمواقد لم تزل
رهينة ذكرى لا تطيق تزلفا
إلى حيث أمي تشعل الجمر تارة
وقبل غياب الشمس كي تتقن الوفا
ومن حولها نمضي نخزن دفئها
وجوعنا في (ميزاره) يخزن الشفا
وأمي تنادينا لتدفع جوعنا
وتطعمنا حتى نقول لها كفا
أعود إلى عش الطفولة مدنفا
لكي أروي حلماً من رحيقها ما اكتفى.
سنديانة التّاريخ
في حمام القراحلة سنديانة يعرفها الكبار في سوريا ويعرفها القاصي والداني.. تحت أغصانها عقدت ندوات ومؤتمرات وكانت لقاءات.
هي معلم من معالم القرية كتب عنها الراحل سليمان العيسى ووهب غانم وغيرهم… هذه السنديانة يزورها الشاعر كلما زار الوطن:
يا سنديانة عدنا والهوى قدر
وساحة الحب فينا اليوم تأتزر
تاريخ عمرك يحكي خير سالفة
أصغى إليها الألى ماتوا ومن حضروا
يا سنديانة ضميني إلى فنن
إن مت يوماً ومات اللحن والوتر.
وسنديانة الحمام موغلة في التاريخ كما شجرة الزيتون التونسيّة التي قدر عمرها بـ٤٠٠٠عام واتخذ صورتها غلافاً للديوان يقول فيها:
زيتونة الخير تعطينا بلا عدد
تشفي الجوارح والأوصال والمقلا
زيتونة أكرم الرحمن نشأتها
تمضي دواء شفاء يمسح العللا
لله درّها خضراء وباسقة
حتى بموتها خضراء تفوح حلا
شكراً لمن وهب الدنيا حلاوتها
وزيّن العيش فيها بالذي فعلا.
أما دمشق الزيتونة الأبديّة وشامة الله على الأرض فلا يخلو ديوان له من لهفة الشّوق إليها والحديث عن أمجادها وفي هذا الديوان ستجد أكثر من قصيدة ترفل بسنا دمشق.
وفي باب الوجدانيّات الجميلة التي تدل على عطر المحبة في أسرة الشاعر يكتب في عيد ميلاد ابنته الدكتورة سلمى وهي الأستاذة الجامعيّة والشاعرة الحالمة فيقول:
أشرق الصبح في طليعة عام
تتمناه أن يكون سعيدا
يا سليمى وكل هذا قليل
أنت كالعقد إذ يشع نورا
أنت ند للصبح مذ التقينا
أنت صبح لنا أتى موعودا
أنت راوٍ أنت أم قصيد
أنت بين اللغات ترعى الجديدا
فيك تحلو العقود عقدا فعقدا
فيك ترعى السنون يوماً تليدا.
جميل حداد في ديوانه “الخضرة نسغ الحياة” يتّخذ الشّعر فيئاً وهويّة:
أسعى إلى الشّعر مراسلاً ليسعفني
لكنه السّيف عاف النوم في الغمد
ما أروع الشعر إن راحت فصاحته
تسعى لتغسل ما في القلب من كمد.
جميل حداد فيض الشعر الذي يمتع القارئ ويحلق به إلى سماوات هي من الواقع، لكن الخيال صنعها واستطاع أن يكون مجلياً في كل ما أبدعه.