الملحق الثقافي-دلال إبراهيم:
يُعبّر مفهوم القوة الناعمة ( Soft power )عن الرغبة الأميركية في بسط هيمنتها الليبرالية والكلاسيكية على جميع أنحاء العالم، من خلال استخدام الإغواء الواهم بالراحة والرخاء وسهولة العيش أي الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة، حسبما كتبه جيفرسون في إعلان الاستقلال الأميركي.
تُمارس القوة الناعمة تأثيرها من خلال عدة قنوات اتصال وتهدف إلى الترويج لنموذج معين من المجتمع يتوافق مع مصالح بلد معين. وهنا دعونا نركز على إحدى الدعامات المميزة لهذه القوة الناعمة، والتي لا ينافسها عليها أحد وهي (السينما). فكيف تخترقنا هوليوود وتؤثر على نظرتنا للعالم وآرائنا السياسية؟ حين نقرر أن نستمع لقصص يرويها لنا العم سام على الشاشة.
لقد اجتاحت هوليوود صناعة السينما العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. مقابل المساعدة الاقتصادية الممنوحة عام 1945 في إطار خطة مارشال، وقد فرضت الولايات المتحدة حينها تشريع أبواب دور السينما الأوروبية أمام الأفلام الأميركية (ولا سيما في فرنسا- مخترعة السينما على يد الأخوين لوميير- من خلال اتفاقيات بلوم – بيرنز). قبل التوسع التدريجي نحو الأسواق الآسيوية والأفريقية. وعلى أثرها أصبحت هوليوود «مصنع الأحلام» في العالم، ما يطبع خيالًا مشتركًا لملايين المتفرجين من جميع الأجيال. وتفيد الإحصائيات باستحواذها على النسب العالية من الجمهور في جميع الصالات العالمية، ولا زالت في ازدياد لغاية الحين. كما وتأتيها العائدات المادية الأضخم من الخارج.
هذه الهيمنة تجعل من الممكن نشر مفهوم القوة الناعمة في جميع أنحاء العالم، بهدف إثبات تفوق النموذج الأميركي على جميع النماذج الأخرى. ومن الخطأ أن نحصر أنفسنا في البعد الفني البحت لسينما هوليوود، التي تزامنت رموزها وتصوراتها دائمًا بشكل أو بآخر مع الدفاع عن أيديولوجية عصرية معينة. تقول القواميس اللغوية، إن الدعاية هي «إجراء منهجي يمارس على الرأي العام لجعله يقبل أفكارًا أو عقائد معينة، ولا سيما في المجال السياسي أو الاجتماعي». ولمعرفة ما إذا كان هذا المصطلح يمكن أن يتوافق مع هوليوود، من الضروري إلقاء نظرة على أصول السينما الأميركية.
ينطوي بناء الهوية القومية الأميركية على تحديد الأعداء المستهدفين. لكن السينما، الفن الشعبي بامتياز، تجعل من الممكن أن تنقل إلى الجماهير كراهية الأجنبي بقوة الصورة. الفرنسي بيير كونيسا، الأستاذ في الجيوسياسي في كتابه عن صناعة العدو في السينما الأميركية، ومن خلال اهتمامه بالأفلام من الدرجة الثانية، والتي تحظى بجماهيرية يقول: «خلال فترة السينما الصامتة كانت تعمد المسارح حين يتطلب الدور إبراز شخصية سوداء لها رمزيتها إلى الاستعانة بممثل أبيض وتلطيخ وجهه بالأسود ووضع شعر مستعار لتقليد الثقافة الأصلية المفترضة للسود في الجنوب. وفيما بعد، وعندما ظهر الممثلون الأميركيون من أصل أفريقي في هوليوود، كان يسند إليهم أدوار محددة: الأسود الهزلي الذي تخيفه جميع أشكال الحداثة، الأسود العضلي الذي يتطلع إلى النوم مع امرأة بيضاء. وبالطبع دور العبد الخاضع لسيده. في عام 1939 مُنعت الممثلة السوداء هاتي مكدانيل، المشهورة بدورها كخادمة مامي في فيلم «ذهب مع الريح»من حضور العرض الأول للفيلم في أتلانتا وسط نظام الفصل العنصري. ومن المفارقات أنها ستحصل على أوسكار لأفضل ممثلة مساعدة بعد بضعة أشهر من خلال قبولها في الحفل … بشرط أن تأخذ الصف الأخير. وفي عام 1991 فازت ممثلة أميركية من أصل أفريقي بجائزة في أرقى حفل في السينما الأميركية.
الأمثلة عديدة ولكن المنطق لا يزال كما هو: تحديد التهديدات المشتركة لخلق التماسك الاجتماعي باستنباط الخوف. وهذا يتماشى مع رؤية كارل شميت، الفقيه الرسمي للرايخ الثالث، الذي يعتبر تعيين العدو هو الوظيفة الأساسية للسياسة. بينما نجد وعلى النقيض من ذلك، أن شخصية راعي البقر ثم الجندي تحمل في مخيلة هوليوود جميع القيم التي يجب أن تتطابق معها أميركا (معنى القتال، الشجاعة والوطنية).
لذلك تعكس سينما هوليوود بوضوح «عملًا منهجيًا يمارس على الرأي العام» كما ورد في تعريف الدعاية. وهنا لا بد من التساؤل: من الذي ينفذ هذا الإجراء: وهل يختبأ خلف تلال ماونت لي قادة صغار يرتدون بزات وربطات عنق يكتبون كل السيناريوهات وفقًا لتوجيهات واشنطن أو وول ستريت؟
من الواضح أن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير. ولا بد من التوضيح أن صانع الفيلم في هوليوود ليس المخرج ولا الممثل، بل المنتج. تتم صناعة معظم الأفلام في عدد قليل من استوديوهات الإنتاج «الكبرى»، والتي يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة. هؤلاء العمالقة صنعوا أكبر نجاحات تجارية في تاريخ السينما، ولا يزالون يهيمنون إلى حد كبير على السوق العالمية. ومنذ الثلاثينات من القرن الماضي بداية ظهورهم، سيطروا على حركة إنتاج وتوزيع واستثمار الأفلام، مستفيدين من رأس مال ضخم وشرعية لا منازع لها.
يخضع اختيار الموضوعات بحد ذاته لخط أيديولوجي معين. في عام 1922، اجتمعت أكبر ثمانية استوديوهات في هوليوود معًا لإنشاء MPPDA (منتجو وموزعو الصور المتحركة في أميركا). وقد سعى رئيسهم، السناتور الجمهوري ويليام هايز، إلى وضع قواعد رقابة لمحاربة الصورة الفاسدة لهوليوود، التي مرت في ذلك الوقت بسلسلة من الفضائح بما في ذلك إدانة الممثل روسكو آرباكل بالاغتصاب والقتل. ووضعوا قائمة توصيات لكتاب السيناريو لتجنب بعض الموضوعات التي تعتبر مخالفة للأخلاق. ولكن في مواجهة عدم فعالية هذه الإجراءات الوقائية، وُلد نص عام 1934 من شأنه أن يغير تاريخ السينما: (كود هايز). جرى بموجبه منع التطرق لمواضيع الجنس، الشذوذ الجنسي، العُري في هوليوود مضافاً بذلك إلى المخدرات والشتائم والكفر. وكل فيلم يتم إنتاجه على الأراضي الأميركية، ويتحدى هذه المحظورات يخضع للرقابة من قبل شركة كود الإنتاج، وهي شركة تابعة لـ MMPDA ويديرها الصحفي الشهير المعادي للسامية جوزيف برين. وهذه الحملة لاقت دعماً من قبل أعضاء الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، التي كانت تتطلع إلى محاربة الأخلاق المنفلتة في ذلك العصر. وهذا الكود جرى استبداله منذ أعوام الخمسينات بنظام (التصنيفات) الذي لا يزال ساريًا حتى اليوم مما يتيح السيطرة أكثرعلى المحتوى المنتج.
وبات ثمة توافق معين بين الخطاب السياسي الرسمي والأفكار التي تنقلها السينما الجماهيرية. وهذا ما تأكد على الساحة الوطنية: حيث وخلال فترة المكارثية (1950-1954)، التي كانت تهدف إلى محاربة الشيوعية على الأراضي الأميركية، خرجت أفلام معادية للشيوعية بشكل علني. وجرى التحقيق مع المخرج جون فورد من قبل الكونغرس، لإخراجه رواية شتاينبك (أسباب الغضب) بسبب مواقف الفيلم المؤيدة للنقابات. وبصورة أكثر عمومية، فإن أسطورة «الإنسان العصامي»، هذا الرجل الذي بدأ من لا شيء ليصل إلى الذروة، تتوافق تمامًا مع النموذج الذي دعت إليه المؤسسة الأميركية، القائم على الملكية الفردية والنيوليبرالية.
لكن السياسة الخارجية بقيت هي المجال التي يكون فيها التأثير السياسي أكثر وضوحًا. المجتمع الأميركي مجتمع فخور للغاية. ولا شك أن السينما ليست غريبة عن هذا. نذكر هنا أنه خلال الحرب العالمية الثانية، كلفت الحكومة الأميركية فرانك كابرا بعمل سلسلة من الأفلام تهدف إلى إقناع الجنود الأميركيين بأن الحرب عادلة. وأخرج «الفيلم الوثائقي» اعرف عدوك: اليابان، على سبيل المثال، وكان نموذجاً للسينما الدعائية: فيه يظهر اليابانيون شعباً متخلفاً ومخادعاً ومتعطشاً للدماء، يخضع بالكامل للإيديولوجية الانتحارية والتوسعية لإمبراطورهم القوي. ولكنه لم يحقق هدفه الكامل بسبب تأجيل عرضه على خلفية الخلافات بين هوليوود وواشنطن، وتم عرضه في 9 أغسطس 1945، بعد انتهاء الحرب وإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي.
وقد يعتقد المرء أن هذه الأساليب قد عفا عليها الزمن في وقت أفسح فيه عقل الدولة الطريق للتعددية والعولمة. وللأسف ليس هذا هو الحال: وإن تنوعت المحتويات والموضوعات ، فإن بعض الأفلام الرائجة تستمر في العمل كمبرر للتاريخ العسكري الأميركي، بما في ذلك في أحلك ساعاته. ولدينا مثال فيلم American Sniper الذي أخرجه كلينت ايستوود، وتم ترشيح الفيلم إلى ست جوائز أوسكار، وقد حصد الفيلم أكثر من 350 مليار دولار من الإيرادات في الولايات المتحدة. ويحكي الفيلم القصة الحقيقية لكريس كايل، القناص في الجيش الأميركي، والذي تم إرساله إلى العراق بين عامي 2003 و 2009 وعرف بأنه «أكثر قناص فتكاً في التاريخ». وينسب إليه البنتاغون قتل160 ضحية. بينما يزعم هو بقتل 255. في سيرته الذاتية التي نُشرت في عام 2012 ، يقول إن «ندمه الوحيد هوعدم قتل المزيد». إنه «البطل» الأميركي الذي سيمدحه كلينت إيستوود لأكثر من ساعتين دون أن يشكك أبدًا في شرعية جرائم القتل التي ارتكبها أو التدخل الأميركي القائم. قيمة مضافة لكذبة الدولة. بالمقابل يظهر «الأشرار» العراقيون على أنهم مخادعون وقسوة، وزوجاتهم وأطفالهم لا يفكرون إلا في القتل، بينما يهاجم مقاتل متعطش للدماء يلقب بـ «الجزار» ضحاياه بمثقاب كهربائي .. كل شيء معد لتمجيد المواجهات الحربية، متجاهلين حقيقة أن كريس كايل قُتل في عام 2013 على يد جندي سابق في مشاة البحرية يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة بعد فترة خدمته في الجيش.
ولا يمكن أن تتخذ أفلام الحرب مطلقاً بنفس الطريقة وجهة نظر معارضة باستثناء فيلم «رسائل من Iwo Jima الذي يروي معركة Iwo Jima من الجانب الياباني. ولكنه ينتهي إلى إقناع المشاهد بأن الولايات المتحدة هي أجمل بلد في العالم. أما فيما يتعلق بحرب فيتنام ؛ يعتقد فيت تان نجوين الحائز جائزة بوليتزر لعام 2016- كما كتب في صحيفة أوبزرفاتور الفرنسية – أنه من خلال أفلام مثل القيامة الآن أو بلاتون Platoon، «خسرت أميركا الحرب في فيتنام عسكريًا، لكنها فازت ثقافيًا. من خلال كتابة نسختها التاريخية في الذاكرة، وهذا بفضل هوليوود. وتُعرف هذه الطريقة باسم «الدبلوماسية العامة»، التي تتوجه إلى مخاطبة سكان الدول الأخرى بشكل مباشر بدلاً من مخاطبة قادتها». وتمارس هوليوود هذه القوة من خلال جمعية الفيلم السينمائي (MPA)، وهي جماعة ضغط قوية للغاية تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها في مواجهة حركة التنوع الثقافي وتظل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الخارجية الأميركية.
في هوليوود، يتم الخلط بين المنطق التجاري وتمجيد القوة الأميركية. يصوغ المنتج الفيلم وفقًا لقواعد السوق وبعض الأعراف السياسية والاجتماعية، وضمن سياق استهتار لأي حقيقة تاريخية. ومع ذلك، في بلد لا توجد فيه وزارة التربية، غالبًا ما يتعلم الأميركيون التاريخ من خلال السينما. إنها إذن مسألة «جعل (الرأي العام) يقبل أفكارًا أو عقائد معينة في المجال السياسي أو الاجتماعي».
وبيير كونيسا مقتنع بهذا: هناك بالفعل دعاية هوليوودية. ففي الولايات المتحدة، يتم اختراع الدعاية والإعلان في آن واحد. الإعلان هوالدعاية التجارية، بينما الدعاية هو الإعلان السياسي. وصرح في حزيران 2018 على ميكروفون الثقافة الفرنسية «إنها نفس الطريقة». ومع ذلك، ومع كل هذا بقي مصطلح «القوة الناعمة» الأكثر حضارة هو المفضل لدى هوليوود. ولا بد من القول أن الجانب الذكي في السينما الأميركية هو قدرتها بنجاح على إخفاء الجانب البروباغندي من خلال استبدالها شرعية النظام بشرعية البطل الذي يسهل التعرف عليه. لكن الهدف يظل كما هو: إظهار نموذجهم القوي أمام الجمهور.
العدد 1151 – 11-7-2023