الهوية الوطنية بين الهشاشة والصلابة؟

هوية الشيء هو مجمل صفاته والهوية بضم الهاء جاءت من هو أي الشخص بما يعرف ذاته ونفسه بنفسه وكيف يرى ويعي ذاته، وفي داخل كل إنسان جملة عناصر يرى فيها حالة اعتبار ومكونة لذاته يريد إظهارها وأحياناً يريد إخفاءها، ويريد أن يتعامل معه الآخرون على أساسها وبما ينتمي إليه ولايكون ذلك إلا من خلال علاقة الفرد مع ذاته والجماعة التي يشعر أنه ينتمي إليها في مجموعة الانتماءات التي يحملها والتي تتفاوت في أهميتها بالنسبة له ويعلق عليها أهمية مختلفة حسب درجة عاطفته تجاهها، وغالباً ما تتمأسس هذه الانتماءات أو تتشيأ خارج وعيه بحكم خطاب المؤسسات الثقافية والفنية والسياسية والتربوية وأحياناً النخب الثقافية وغيرها، فتساهم في خطاباتها إنشاء وتكريس مثل هذه الهويات من خلال هيمنة خطابها، فتبرز هذه الهويات لا بالقوة أو السيطرة، وإنما من خلال هيمنة الخطاب بالقوة الناعمة والقدرة على الإقناع العاطفي والتأثير في المتلقين وربما تتكرس وتقوى بعض الهويات أو تتلاشى بحسب البيئة التي يعيش وسطها الشخص، فعلى سبيل المثال يمكن للعربي أو المسلم في أوروبا أن يخفى هويته إذا شعر أنها تسبب له المشاكل بسبب الفوبيا الإسلامية التي اجتاحت أوروبا في فترة معينة أو على العكس قد يبرزها من باب التحدي إذا شعر أنه مستهدف بسببها وعلنا لاحظنا في الفترة الأخيرة انتعاش للانتماءات الفرعية من مذهبية وطائفية وعشائرية بحكم التحشيد والاستثمار في هذه الانتماءات والنسب الكاذب أحياناً لبعض الجماعات في حين أنها في فترة من الفترات لم يكن يجرؤ أحد على ذكرها أو اعتبارها رأسمالاً اجتماعياً.

وبالعودة للعنوان نكتشف أن المسألة معقدة أكثر من ذلك لأن القضايا المرتبطة بالهوية متداخلة وأحياناً مشتبكة يتداخل فيها الثقافي بالسياسي بالديني بالتاريخي الواقعي بالمتخيل لأنها تفهم وتعرف بوصفها مجموعة الخصائص التي تميز جماعة عن غيرها من لغة وتاريخ وثقافة على الرغم من وجود بعض عوامل مشتركة مع جماعات أخرى إلا أن وعياً بها يجعلها تتميز عن غيرها تصل إلى درجة الشعور المشترك والهدف المشترك وكذلك إرادة العيش، فثمة رابطة تجعل من الجماعة شعبا وربما دولة بالمعنى السياسي والقانوني، ولاشك أن كل الهويات مصنعة، وهذا لا يعيبها لأنها ليست مصطنعة، فإذا كانت صفاتنا الجينية غير مصنعة فإن ما عداها مصنع، فثمة صفات طبيعية كالشكل والطول واللون والجنس والمكان وهي تأتي بالولادة ثم تبدأ صناعة الشخص بعد ذلك من خلال الأسرة والمدرسة والدولة والمنابر وغيرها.

وطريقة تعامل السلطة مع المواطنين هي من يعزز الهوية الوطنية ويمتنها إذا كانت العدالة والمساواة والخدمات متكافئة للجميع أما إذا تعاملت الدولة مع زعامات دينية أو حزبية أو عشائرية أو مذهبية وقدمت خدماتها لهذه العنصر وبنت سياساتها على ذلك فهذا يعني إنعاش الانتماءت الفرعية وهشاشة الانتماء الوطني، ولكن ثمة بعد ثقافي يكثف الهوية ولا يحصرها فقط في متقابلة الحقوق والواجبات، فثمة أشخاص بسبب قوة وتجذر وعيهم وانتمائهم لا يربطون علاقتهم بوطنهم بما يقدمه من خدمة أو تعامله مع مواطنيه من خلال المنافع، وإنما من خلال حالة الانتماء، ولكن كثيرون هم من تضمر أو تقوى هويتهم وانتماؤهم من خلال العلاقة وطبيعتها مع الدولة أو علاقة الدولة مع الناس أي دولة المواطنة، ولكن ثمة من يتحدث عن الدولة أو لنقل السلطة التمييزية المنحازة، فربما في الدول الغنية لا تظهر حالة التمييز بسبب كثرة الموارد وتوزيعها على الجميع، ولكن تظهرالحالة التمييزية عند الدول محدودة الموارد بحيث تظهر سياساتها التنموية والخدمية وتوزيع السلطة انحيازها لجهة أو مكون أو انتماء ما ولا تعمل قاعدة العدالة بين المواطنين، فتضعف الهوية الوطنية مع التأكيد على أن المواطنة لا تعني المطلبية، وإنما هي أيضاً واجبات وقبل ذلك انتماء قوي بقدر ما هي حقوق، ومع استمرار هكذا سياسات فئوية يزداد تخصيب الانتماءات الفرعية لأنها تصبح رأسمالاً سياسياً واقتصادياً واعتبارياً وتلين الهوية الوطنية وربما تتشظى، فالذي يعزز الهوية الوطنية هو سلوك الدولة القانوني والعادل وسياساتها التنموية واعتمادها مبدأ المواطنة وليس الولاء والعصبيات الفرعية المهيمنة.

وحتى لا تبخس الدولة الوطنية في بلداننا العربية حقها ونجلد ذاتنا لا يستطيع أحد إنكار حقيقة أن للدولة الوطنية الحديثة العديد من الإنجازات في التعليم والصحة والخدمات مقارنة بما كان قبل الاستقلال، ولكن السؤال المحوري والمهم هل نجحت بأن تكون دولة مواطنة فيها مساواة في كل شيء في القانون في الخدمات في الشراكة بالمنافع في موضوعة الحرية ودولة المؤسسات هذا سؤال مهم لأن الدولة هي الآلة الإيديولوجية في صناعة المواطنة عبر سلوكها العملي المنسجم مع خطابها الوطني ودورها الوظيفي.

والحقيقة أن الهوية بين الأمة والوطن والدين قضية شائكة ومعقدة ومركبة في ظل تعدد الانتماءات والهويات في الدولة الواحدة، فالإنسان هو من يعرف ذاته وإذا اأخذنا مثالاً عن مصر بوصفها دولة من أقدم دول المنطقة، ففي ظل تنتزع الانتماءات يسأل المصري هل أنا مصري أو قبطي أم عربي مصري، وكذلك العراقي هل أنا عراقي أم شيعي أم سني أم كردي أم عربي أم أنا مصري وقبطي وعربي أو سني وعراقي وعربي، وهذا ينطبق على دول كثيرة بسبب تعدد الانتماءات ولكن سياسات الدول هي من يشكل انطباعات مختلفة، وهذا يغير من تعامل الناس مع أنفسهم فيجعلهم يتقبلونها من خلال التعليم والثقافة والخطاب الوطني فالمسألة تتعلق بخطاب وسلوك الدولة ووطنيتها أياً كان عرق أو إثنية أو دين من يحكمها، فعلى الرغم من أن الذين حكموا مصر من عام 1800 حتى 1952 لم يكونوا عرباً وكان الكثير من الرؤساء في مصر وبلاد الشام ليسو من أصول عربية إلا أن النهضة العربية أو المشروع النهضوي العربي كانت رافعته مصر وبلاد الشام وفي محمد علي وابنه ابراهيم باشا تحقق وحدة مصرية شامية استمرت عشر سنوات واسقطتها القوى الغربية بالتعاون مع الدولة العثمانية والمثال المصري الشامي يؤكد أهمية خطاب الدولة والنخب الثقافية والفكرية والسياسية في تشكيل الهوية الجامعة، فعندما يطغى الخطاب الوطني والسلوك الوطني لا تبرز أو تستيقظ الهويات الفرعية والعكس صحيح، فالخطاب أو السلوك الطائفي أو الديني أو العرقي في بلد متعدد الانتماءات يؤدي حتماً إلى تراجع الهوية الوطنية والانتماء الوطني وتصاعد الانتماءات الفرعية وتحولها إلى هويات بحكم رد الفعل أو الحفاظ على الجماعة من التهميش والذوبان، وعلى سبيل المثال عندما علا الخطاب الديني الإسلاموي في مصر ارتفع الخطاب القبطي بحكم ردة الفعل وهذا شيء طبيعي لأن الأقباط شعروا بالخوف جراء ذلك، وكذلك الأمر في العراق بعد الاحتلال والغزو الأميركي لاحظنا تراجع الخطاب الوطني والقومي وتصاعد الخطاب المذهبي والعرقي ورسملته سياسياً ما أحدث شروخاً عمودية في المجتمع العراقي، فلابد من تكريس سياسات وطنية لتجاوزها من هنا يصبح الخطاب الوطني وسلوك السلطة المنسجم معه هو الأساس القوي في هوية وطنية صلبة قادرة على مواجهة كل تحديات الهوية والاستقطابات الطائفية والعرقية والجهوية وغيرها مع الإشارة إلى أن الطوائف والمذاهب هي حالة انتماء طبيعي واجتماعي محلي وغير عابر للحدود ولكن المشكلة في تسييسها أو جعلها حالة تفضيلية أو عابرة لحدود مجتمعها، وهنا يبرز دور السلطة ونظام الحكم فالهوية والانتماء يصنعان ويتعززان من فوق.

من خلال ما جرى الإشارة والإضاءة عليه يمكننا القول إن الدولة الوطنية في منطقتنا تعيش حالة تحد وتهديد للهويات والانتماءات يستدعي تحديد الأسباب الحقيقية التي أنتجت تلك الظاهرة الخطيرة التي تهدد لا بنية الدولة فقط وإنما السلم الأهلي والعقد الاجتماعي الوطني وضرورة معالجة أسباب ذلك من خلال بناء وطن قوته ومناعته من قوة ومناعة المواطن المنتمي لأمته وشعبه المعتز بوطنه المدافع عنه بكل ما يملك لأن لا حياة كريمة ولا كرامة لإنسان دون وطنه ومجتمعه وأهله.

 

 

آخر الأخبار
مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة في اليوم العالمي للطفل.. جامعة دمشق داعمة لقضايا الطفولة بمناهجها وبرامجها التعليمية استشهاد 36 وإصابة أكثر من 50 جراء عدوان إسرائيلي على مدينة تدمر بالتزامن مع يوم الطفل العالمي.. جهود لإنجاز الاستراتيجية الوطنية لحقوق الطفل "التجارة الداخلية" بريف دمشق تبدأ أولى اجتماعاتها التشاورية أسطورة القانون رقم 8 لحماية الناس..!! حمى عناصر الرقابة التموينية والتضخم والغلاء.. مرسومان بتحديد الـ 21 من كانون الأول القادم موعداً لإجراء انتخابات تشريعية لمقعدين شاغرين في دائرة د... رئاسة مجلس الوزراء: عدم قبول أي بطاقة إعلامية غير صادرة عن وزارة الإعلام أو اتحاد الصحفيين السفير الضحاك: استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي بدعم أميركي يهدد السلم والأمن الإقليميين والدوليين انطلاق الحوار الخاص بتعديل القوانين الناظمة لعمل "التجارة الداخلية" بطرطوس الأملاك البحرية لا تُملك بالتقادم والعمل جار على تعديل قانونها وزير التجارة الداخلية: بهدف ضبطها ومراقبتها .. ترميز للسلع والمنتجات ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43972 منذ بدء العدوان عراقجي: فرض أوروبا إجراءات حظر جديدة ضد إيران خطوة مدانة واستفزازية ارتفاع عدد الشهداء جراء العدوان على جنين ومخيمها لليوم الثاني إلى خمسة في يومهم العالمي.. مطالبات فلسطينية بحماية فورية للأطفال من استهدافهم الممنهج القوات الروسية تحرر بلدة في دونيتسك وتقضي على 50 عسكريا أوكرانيا في سومي زيلينسكي: أوكرانيا ستهزم بحال أوقفت واشنطن دعمها العسكري