الملحق الثقافي- حسن إبراهيم أحمد:
إذا كان بعض كبار الاقتصاديين قد اعتبروا أن أعظم ما أبدعته البشرية في تاريخها، هو اختراع النقود لإنجاز التداولات الاقتصادية، مثلما اعتبر المؤمنون أن العقائد هي: أهم ما اهتدى إليه البشر، فقد اعتبرت كثير من مثل هذه الآراء، اعتداء على ما تم التوافق عليه، من أن اللغة هي أعظم اختراع حضاري للبشرية أوجدته في تاريخها وعبر نشاطاتها، أو يمكن أن توجده، دون تصادم بين هذه الآراء والأفكار المطروحة. الأصوات بجرسها ووقعها في النفوس (وليس الكتابة فقط) هي من أهم المعطيات التي تغذي المشاعر، وتصنع دفء الحياة الذي يخرجها من صقيع الخرس. إنه الصقيع الذي يقضي على ما هو جميل ونبيل. إن رنين الأصوات البشرية، وصنوها تلك الموسيقا المبتدعة، من أهم الفواعل في جعل الحياة جميلة، أي تبرئتها من القباحات التي تلحقها، بل من أهم ما يصنع الألفة بين البشر. إن اللجوء إلى الكتابة دون الصوت الذي كان الأساس في وجود اللغة ثم تبعته الكتابة، أي رموز الأصوات المنطوقة، هو وجه من وجوه خيانة اللغة حين يتم الاكتفاء بها دون نطق في التواصل البشري، ويبدو أن هذه الخيانة تجد من يمارسها اليوم في مواقع تزداد انتشاراً، مما يحرم اللغة والمجتمع الذي تنتشر فيه من لذة الإنصات ولذة ابتكار الأصوات وانتشار اللهجات التي تشير إلى حق من حقوق الاختلاف لا تتيحه الكتابة. وكثيراً ما تم امتداح الأصوات من الطبيعة إلى البشر، والتحدث عن جماليات تبرزها، سواء أصوات الطيور المغردة، أم بعض الحشرات، وربما كانت هذه الأصوات وتقليدها من مؤشرات تطور الموسيقا عبر التاريخ، بل الشعر والغناء أيضاً. هل يتذكر الأزواج كم كانت عبارات الحب المتبادلة، والتحيات وردها، قبل الزواج، وفي مراحله الأولى تؤدي إلى التجاذب والتناغم، وتفعل فعلها في إيجاد القواسم المشتركة وصناعة الألفة وتجاوز كثير من الصعوبات المعترضة؟ ماذا حل ويحل مع الأيام؟ وأية بدائل يلجأ إليها الناس حين تعصف بهم برودة العواطف والحاجات اليومية للتواصل وتجاوز الصعوبات، فتغدو الحياة محرومة من الدفء؟ وما أظن أن رسالة «أحبك» على شاشة الهاتف الجوال، تعادل في أثرها «أحبك» من الشفاه إلى الآذان. بعيداً عن متاهات الشذوذ، فقد قال أحد الأزواج، كان صوت حبيبتي أجمل موسيقا، وبعد زمن من زواجنا أصبحت أشتهي نعيق الغراب بدلاً منه، وقالت زوجة، لم أعد أطيق سماع الصراخ والأوامر والشتائم من زوجي الذي لا يسمعني غيرها. وهناك المزيد من الآراء والحالات التي تجعل الحوار بين شركاء الحياة وتطور المجتمعات، تكاد تختفي وتزيد إرباكاتها، فيحل الوجوم والصمت تجاه المسائل المطروحة، يتصرف كل طرف بمعزل عن الآخر، والتواترات تزداد، والألغام تزرع في المنازل مؤذنة بالانفجار، والضحايا أهمهم الأطفال وصفوِ الحياة واستقرار العيش، حتى وإن بقي أطرافها يعيشون معاً، لكن دون شراكة حقيقية فاعلة، وليس غريباً أن تستمر القطيعة بين شريكي الحياة أياماً بل أسابيع وشهور، إن لم يكن أكثر أو على الدوام. قد يبدو طبيعياً أن يحدث التغير في العواطف، وما تجره صعوبات الحياة واختلاف الأمزجة من سلوكات، لكن ليس إلى حد قطع التواصل والحوار أياً كانت الظروف ضاغطة. بل ربما كان مما يساعد على استبعاد الضغوط وتفكيكها، الانخراط في حوارات أهم منصاتها وشاشاتها البيوت، وأهم من تجري بينهم أهالي تلك البيوت ابتداء من الزوجين، ما يسهم في انتقال الحوار إلى مواقع العمل والمؤسسات والأحزاب والشوارع والطبقات، مع ضمان اتسامها بالهدوء والصراحة والتسامح، عندما يتم الالتزام بأدبيات الحوار والخروج من تفكير صناعة النصر من قبل طرف على آخر بالأساليب الملتوية، كما يحاول السياسيون، أو كما يفعلون! لماذا يحصل هذا البرود، هذا الخرس الزوجي بين شريكي الحياة الحميمة، حين يكونان في حالتهما الطبيعية، في منزلهما وحيدين، في حين يظهران مهارات التحدث والحوار عندما يكونان مع الآخرين؟ لا شك أن هناك مقدمات وظروفاً لهذه الحالة لم تجد من يتغلب عليها، كالاختلاف في وجهات النظر تجاه ما يعترض الأسرة من مشكلات وطرائق حلها، فيتم السكون تجنباً للمزيد من الخلافات، فلا تثار الموضوعات، ولا تحلّ المشكلات، ثم تزداد الهوة اتساعاً، ويضاف الكثير من الثلج البارد على العلاقة العاطفية، فتجد القطيعة طريقها عبر الأيام. قد لا يكون في نية أي من الطرفين الوصول إلى الطريق المسدود، وعندما يفكران أو يسألان، يقولان لا ندري كيف ولماذا وصلنا إلى هنا، إلى القطيعة. وتكون التضحية كبيرة، بل جريمة بحق آخرين صغار عصف بهم التعنت والإصرار على المواقف والشكليات الفارغة، في حين يكون التغلب على العقبات والصعوبات كان ممكناً. ربما لا تكون الحسابات في البدايات تشير إلى إمكانية الوصول إلى هنا، يوم توقف سيلان الكلام الهادئ بين الطرفين وفي أرجاء المنزل. بل لعل بقاء الحديث في أية مواضيع، مهما كانت تبدو سخيفة، ما يساعد على ألا يفسد للود قضية، والأمور التي لا تثير خلافاً لسخفها قد تعلم البقاء في السبل الصحيحة والمحافظة على تناول الأمور المعقدة والتي تحتاج إلى التفكير الهادئ الذي تمت المحافظة عليه، عندما يتم تمرير الأمور المعقدة بالوصول المشترك إلى حلول لها، ويكون ما ليس له قيمة مساعداً على الاستمرار فيما له قيمة عبر رفض الخرس بين الأطراف. بمعنى آخر، قد لا تجد الأطراف دائماً ضرورة للانخراط في أحاديث ذات مضمون رفيع أو هام، مع ذلك يفترض عدم التوقف عن الانخراط في الأحاديث والحوارات بعيداً عن الشقاق، وصولاً إلى الغايات الرفيعة. ويأتي ذلك دون أن يعني تحول الحياة إلى ميدان ثرثرة لا يقل ضررها عن الخرس. عالجت الموضوع في كتاب (المرأة في دوائر العنف) الذي نشرته رابطة العقلانيين العرب. لكن مثل هذا الموضوع يحتاج أن يثار دوماً وألا يغلق، بل يحض على ممارسته، ولعلنا جميعاً مطالبون بالحوار في كل مجالات الحياة، وهذا من مهمات المثقفين أولاً، وتجب الدعوة إليه تجنباً للكثير من الأخطار. بالتالي، لماذا لا يكون من بعض أنشطتنا إبقاء هذه الدعوة مفتوحة في كل مجالات الحياة ابتداء من منازلنا، وخاصة بين الأزواج الذين يكتشفون بالتدريج مفارقات الحياة ويحتاجون تجاوزها والتغلب على صعوباتها التي تحتاج إلى ترويض فيتوطن الحديث حول كل أمر معترض في المنزل. ضيق أحوال الناس وبعض طباعهم يقلل فرص التواصل، في حين يفترض أن يسهم ذلك في مزيد من تبادل الآراء، ولكل بيت أو أسرة ظروفها وطرائقها في ذلك، والمهم ألا تتوقف عن هذا الدور الذي يجب أن ينقل إلى الأبناء ويكون من ثقافتهم، حين تدار الجلسات عليه بهدوء، ومن ذلك مناقشة أحوال الآخرين من أهل وأصدقاء، وصولاً إلى أحوال البلاد. وهذا يسهم في إظهار أن مشكلات الأسر قد تتشابه، ولا أسرة دون مشكلات صغيرة أو كبيرة تحتاج الحوار حولها، ويكون ذلك سبيلاً لتهون صعوبات الحياة في نظر المتحاورين، والتعلم على إيجاد المخارج اقتباساً من الآخرين وأساليبهم. المرونة في الإقدام على ذلك، حتى لو تم اختراع الأحاديث وجعلها مستمرة قدر الإمكان، يجنب الوقوع في حالة الخرس ذات الخطر إن هي تمكنت. ولقد ثبت أن أحاديث الناس حول ما يرونه، سياسياً أو اجتماعياً، أو غير ذلك، قد تغوص حول أعقد المسائل فتسهم في حلحلة عقدها. في زمننا هذا نحتاج في منازلنا إلى مزيد من الانتباه، فالناس يغوصون في مزيد من الخرس المنزلي، والذي يشمل الأولاد مع الكبار، ثم قد ينتقل إلى مواقع العمل ووسائل النقل والمقاهي والشوارع، حين يكون الجميع غارقين بالانتباه إلى شاشات أجهزة اتصالهم، والكلام هنا يقرأ أو يكتب بصمت، فتختفي الأصوات التي هي من أهم عناصر الحوار التي تكسر حدة الخرس أو لا تعززه. وهنا نكون أمام فائدة واحدة هي إيصال المعنى مفتقدين فائدتين مهمتين هما إصدار الأصوات وسماعها، أي شلل اللسان والأذن، مقابل اشتغال الأنامل. فلحساب من؟ ومن المتضرر، أو ما الضرر الحاصل؟ علماً أن التكنولوجيا الحديثة تعمل على تعميم بصمة الصوت المفتقد.
العدد 1161 – 3-10-2023