الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
طرح بورخيس وهو يعتبر القارىء الأكبر الكثير من الأسئلة كما فعل غيره قبله وبعده من المهتمين بالقراءة حول تلك العملية السحرية للقراءة، وعلاقة القارىء بالنص وقد أكبر بورخيس من شأن القارىء حتى أنه جعله في مرتبة أعلى من الكاتب. فبدون القارئ لن يكون للمؤلف وجود.. ولم تعد هذه الحقيقة البديهية قائمة لأن الكاتب العظيم، خورخي لويس بورخيس (1899-1986)، لم يكن خائفاً من وضع القارئ فوق المبدع.. وأكد أن «القراء الجيدين هم طيور نادرة، وأكثر قتامة وتفردًا من المؤلفين الجيدين» ..
أحبّ بورخيس القراءة كما لم يُحبّها أحد، حثّ عليها، ورغّب فيها، أسمى الكونَ مكتبة، وعلى الرغم من ذلك كان يُصرّ على أن انتقاء الكتب مسألة شخصيّة للغاية، مثلها مثل علاقات الحب.
في أحد الأيام، طرح أحدهم هذا السؤال على الكاتب خورخي لويس بورخيس: ألا يخالجك الندم لأنك أمضيت جل وقتك في القراءة بدلاً من الاستمتاع بالعيش؟
وكان رد بورخيس الطويل كالتالي :» ثمة العديد من الطرق للعيش والاستمتاع، والقراءة هي إحدى هذه الطرق «
إذا ألقيت نظرة إلى الخلف، إلى ماضيك، من بين معالم حياتك، ستجد أن القراءة الجيدة تحتل مكانة لا تقل أهمية عن الأحداث الحقيقية – على سبيل المثال، رحلة طويلة مليئة بالمغامرات عبر أراضٍ غريبة، قمت بها في عام معين، في الماضي، تبدو أقل تذكرًا من استكشافك الأول لـكتاب ( البحث عن الزمن المفقود ) على سبيل المثال، أو مرة أخرى، قد تدرك أن لقاءك مع آنا كارنينا، أو مع جوليان سوريل، هو أكثر أهمية من لقاءاتك بمعظم معارفك السابقة.. من الذي يجب أن يقيم الأهمية النسبية والوزن المحدد.. من ذا الذي كان له المساهمة الأكبر من مجموع تلك التجارب المتنوعة في تشكيل شخصيتك؟ إن ذكرياتنا لا تختلف كثيراً عن القصص التي قرأناها في بطون الكتب.
في الواقع، ذكرياتنا ما هي إلا قصص.. مثل الكاتب الذي يكتب سطور مسودته، نحن نقوم باستمرار بتحديث ذكرياتنا، فنحن نمحو اللحظات المملة، ونلون السطور بأجزاء درامية، وفي أغلب الأحيان، نجعل من أنفسنا أبطالًا في مغامرات لا توجد إلا في أفكارنا.
عندما كنت مراهقًا، كنت أقرأ الروايات غالبًا في محطة الحافلات في مدرستي.. ذات مرة أتت إلي فتاة أكبر سنًا لا أعرفها وقالت: «لماذا تقرأ الكتب؟» انه يوم جميل.. اذهب للاستمتاع قليلاً! »
وحتى عندما كنت بالغًا، أحيانًا يطلب مني أحدهم أن أضع كتبي جانبًا وانطلق للعيش بمتعة.. خلف كلماتهم يكمن اعتقاد خفي سائد، يقول إن القراءة ليست حياة، وكل لحظة تقضيها في كتاب هي حياة أقل جودة.
لكن ما أنا عليه اليوم ليس مجرد مجموع لحظات «الحياة الحقيقية». وإنما أيضًا هي جميع الكتب التي قرأتها، وهي أجزاء من الثقافة الحية، والتي أهداني إياها والداي ومعلمي وأصدقائي.
عندما ندخل إلى صفحات الكتاب، يحدث شيء ما.. نترك حدود أنفسنا، وندخل، للحظات سحرية، في عقول الآخرين، بشرًا أو حيوانًا أو غير ذلك.. نحن لا نقرأ فقط عن رحلة دوروثي لرؤية الساحر أوز العجيب، بل نصبح دوروثي ذات الكعب الأحمر وكل شيء.
في كتابها بروست والحبار، تصف عالمة الأعصاب الإدراكية ماريان وولف ظاهرة «العبور»:
من خلال القراءة، يمكننا أن نترك وعينا وننتقل إلى وعي شخص آخر، من عصر آخر، من ثقافة أخرى.. «عبور « مصطلح استخدمه العالم اللاهوتي جون دون، يصف فيها الآلية التي من خلالها يمكن للقراءة أن تسمح لنا التعرف والدخول لفترات قصيرات في منظور مختلف لوعي شخص آخر سواء في أفكار الفارس، أو مشاعر العبد، أو سلوك البطلة، أو المجرم الذي قد يندم أو ينكر ارتكاب الأخطاء، وحينها لا يمكننا أن نعود تمامًا إلى الحالة التي كنا عليها في البداية.. أحيانًا نُلهم، وأحيانًا نحزن، ولكننا دائمًا نثري.. من خلال هذا العرض، نتعلم القواسم المشتركة والتفرد لأفكارنا الخاصة – أي في أننا أفراد، ولكننا لسنا وحدنا. »
على الرغم من أن أكوام الروايات التي قرأتها في شبابي لم يكن لها «هدف» (لم أستطع التوقف عن قراءتها)، إلا أنها كان لها بعض التأثير.. لقد تعلمت أن أرى الأشياء ليس كما رأيتها فحسب، بل كما رآها الآخرون أيضًا.
أولئك الذين كانوا قراء حقيقيين طوال حياتنا نادرًا ما يدركون الامتداد الهائل لوجودنا الذي ندين به للمؤلفين.. نحن ندرك ذلك بشكل أفضل عندما نتحدث مع صديق غير أدبي.. قد يكون مليئًا باللطف والحس السليم، لكنه يسكن عالمًا صغيرًا.. في هذه الحالة يجب أن نختنق.. عيناي لا تكفيني. …من خلال قراءة الأدب العظيم، أصبح ألف رجل، ومع ذلك ظل كما هو.. مثل سماء الليل في القصيدة اليونانية، أرى بعدد لا يحصى من العيون، لكني دائمًا من يرى.. هنا، كما في العبادة، في الحب، في العمل الأخلاقي وفي المعرفة، أتجاوز نفسي؛ وأنا نفسي فقط عندما أفعل ذلك ».
القطة لديها تسعة أرواح، لكن كقارئ، أعتقد أن لدي ألفًا.
العدد 1161 – 3-10-2023