الملحق الثقافي- حسن إبراهيم أحمد:
الصمت مرفوض عندما لا يكون خياراً. وعندما يتم اللجوء إليه، قد لا يكون هو الخيار المفضل.
لكن متى يكون الصمت خياراً صائباً، ومتى يكون كرهاً مكروهاً؟ متى يكون خياراً أو ثقافة، وقد كتبنا في (الموقف الأدبي) تحت عوان « الصمت ثقافة»؟ ومتى لا يصح أن يكون هو الملاذ باعتبار أن الإنسان « كائن ناطق» وقد تعددت أشكال وطرائق النطق وأدواته وأساليبه؟ وهل تمتع الإنسان دون غيره من المخلوقات بميزة النطق والإفصاح، ليقرر في لحظة ما تعطيلها، أم أنه يعطلها مكرهاً؟
قالوا « مقتل المرء تحت طيات لسانه» أو «بين فكيه». ولطالما أوردت الألسنة أصحابها الهلاك. بالتالي، فإما أن يكون العقل هو المرشد للكلام أو للصمت، أو لا ضمان للنتائج. والعملية رهن الثقافة والنظم السائدة في المجتمعات، ومدى احترام الرأي والرأي الآخر.
حفيدي البالغ من العمر سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، اتخذ مجلسه بين يدي مساء على شرفة المنزل، وهو قليلاً ما يهدأ أو يسكت، أشار إلى القمر في كبد السماء بفرح، وهو يطلب النظر إليه دوماً، وعنما لا يراه يقول «نام» وكذلك يقول عن الشمس عند غيابها. قلت له ما رأيك أن نصعد إلى القمر؟ فابتهج موافقاً، ثم بدأنا معاً نبحث في كيفية حصول ذلك. قلت له: نبني درجاً إليه، فوافق. ثم قلت له نضع السلم المركون قرب المنزل ونصعد بواسطته، فوافق. قلت ما رأيك أن نطلب من الحمامة أن تعطينا أجنحتها نطير بها إليه؟ فوافق. ثم قلت لماذا لا نركب إحدى الطائرات التي نراها في الجو لتأخذنا إليه؟ فأعجبته الفكرة. وهكذا كان يدور حديث السمر بيننا، وكان فرحاً، وعند كل رأي يحاول إفهام أبيه وأمه وجدته وعمه الذين طلب أن نأخذهم معنا. وعندما عرضت عليه شخصاً يعرفه لصداقته مع أبيه ويلعب معه ويحبه، انتفض رافضاً، فسألته: لماذا لا تريد أن يصحبنا وهو صديقك؟ قال: «سكوت» أي أن هذا الشخص قال له مرّة « اسكت» عندما كان يصدر أصواتاً صاخبة.
قال له ذلك مداعباً ويستزيده من اللعب والأصوات، لكنه بعد ذلك كلما أراد أن يعبر عن رفضه لطلب شخص ما يقول « سكوت» أي إنه قال له: اسكت، أي قمعه. وهو عندما سمع هذا الأمر بكى كثيراً دون أن يهدئه تدخلنا. وعجبنا من تأثير ذلك عليه إلى هذا الحد.
لم ينتج موقفه عن عقل وتحليل، إنما عن اعتراض فرحه الصاخب دون دراية أو وعي بأبعاد أمر السكوت، وهو يعبر تعبيراً طفلياً. لكن، إذا كان هذا الطفل رافضاً للقمع والإسكات، أفلا يكون ذلك تعبير الفطرة الإنسانية الذي يجب ألا يتعرض للضغوط، ومطلباً من مطالب الحرية بالتعبير عما يريد، وهكذا تعد الحياة صاحبها منذ بدايتها؟!
كيف فهم هذا الطفل – وربما غيره من الأطفال- أن هناك اعتداء على حريته عندما طلب إليه أن يسكت؟ والسؤال الأهم: كيف تتشكل القناعة بالسكوت عند الناس، حتى لو لم يطلب إليهم ذلك مباشرة؟ وما مستوى العدوان على الحياة والحرية عند الإسكات القسري؟
عندما يطلب من الصغار السكوت في مجالس الكبار، أو يتم إبعادهم عن مجالسهم الجادة، يكون ذلك تلقيناً للدروس الأولى التي عليهم فهمها وممارستها استبعاداً للوم والتقريع، أو ما لا يستحب من النتائج. هكذا تعلم البيوت صغارها، والمدارس تلاميذها، وأبناء العائلات، صوناً لحرية ودور الآباء القادة والمعلمين والشيوخ الكبار ممن يوصفون بالحكمة والدراية. ويكون سكوت الصغار خلقاً طيباً وحسن تربية.
هنا يكون التلقين ذو أهمية « إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب» ودائماً يتم تحذير من يعلنون مواقف مغايرة أو يقولون ما يشي برفض أو انتقاص إرادة عليا، بأن ألسنتهم ستوردهم المهالك.
عندما تتمكن آلية السكوت والإسكات، وعدم الخوض فيما يجلب غضب الجهات الفاعلة في العائلة أو العشيرة أو الحزب والجماعة التي أصبح لها صورة القبيلة والعشيرة، كما تخترقها آليات نشاطهما، ماذا ستكون النتيجة غير احتكار الرأي وإغفال ما يريده من يحتكر الدور؟
لماذا يكون الصغار رافضين بقوة لكل ما يقيد حريتهم ويمنعهم من التعبير عما يريدون، وعندما يكبرون حيث يفترض أن يزدادوا قوة وصلابة، نجدهم يرضخون للأوامر بالسكوت، من اية جهة جاءت هذه الأوامر، اجتماعية، سياسية، عقدية…. الخ؟
حزين من أجلك يا حفيدي، ومن أجل كل الأحفاد الذين نربيهم على قيم السكوت والطاعة دون تبصر بما سنورثكم إياه، عن قصد ودراية، لأننا نظن به السلامة، كما لم نتعلم غيره، ونجده خير مخرج وقارب النجاة من شططنا في الكلام انسجاماً مع ما تبقى في دواخلنا من مشاعر، وفي زوايا عقولنا التي أظلمت، وشعوري بالحزن هذا هو على نفسي أولاً، وعلى كل من استسلموا لمنطق العشيرة والقبيلة والطائفة…الخ.
وحزني ثانياً لأننا لم نهتد إلى ما اهتدت إليه الشعوب التي تقدمت وتتقدم، ولم نحصل على فوائد من تجاربها في مختلف المجالات وأهمها الصدق في أداء الأدوار وحذقها، من أرفعها إلى أدناها. بالتالي لم نحسن نقل ذلك إلى أطفالنا وأجيالنا اللاحقة..
حزين لأننا نفتقد المشاريع الطفلية وصدقها وبراءتها عندما نكبر، مع أنها مشاريع لها جدارتها، لماذا لا تنعكس الآية ونتعلم من الصغار كما نعلمهم؟ كيف ننسى عالم البراءة كما ننسى أن نبقى صغاراً؟
إننا نفتقد التفكير بالمشاريع النوعية والكبيرة، والتي بدونها لا يكون تقدم البلدان. غاية ما نطمح إليه الاستسلام للعمل السهل والفكر السهل، والسهولة تعني الضحالة، وتعني عند الكثيرين عدم الإقدام. ومنذ عشرات السنين كنت أتساءل: لماذا نقول عند الخروج من بيوتنا إننا ذاهبون إلى الدوام، ولا نقول إلى العمل، لأننا لا نجد العظمة إلا في قضاء الوقت دون عمل، مع علمنا أن الأوطان لا تتقدم إلا بالعمل؟ ونعبر عن قيمة وأهمية الأعمال التي توكل إلينا ونتقاضى عنها أجراً، أنها سهلة، أو غير متعبة، بل إننا نتسلى فيها. والتسلية مؤسفة مثل السكوت عندما تكون المصالح الوطنية هي الضحية.
هناك خوف مزروع فينا، ينمو وينمو، ننميه بإصرار، هو الخوف من كل جديد، ومن كل أمر يتطلب جهداً وجلداً. من مشاققة أهل جلدتنا، من كل صاحب موقع أو سلطة، حتى وإن كانت سلطته تفرض عليه مساعدتنا لا إخافتنا.
كتبت يوماً «الخروج من ثقافة الترادف» (الموقف الأدبي) والصغير يترادف على أبيه، والضعيف على القوي، والتقليد مستمر دون تقدير الضرر. فالجميع يترادفون على زعاماتهم من رب العائلة إلى شيخ العشيرة والجماعة. ومثل ذلك في عالم السياسة.
كيف تستقيم قيم الحرية مع قيم الطاعة بالمطلق؟ ثقافة الترادف تأتي من الرديف الذي يختفي وراء راكب الدابة الأول. وفي الجيوش يقتضي الاصطفاف أن يختفي التالي وراء الأول فلا يظهر سوى من هم في المقدمة.
هكذا تكتمل حبكة المشهد، مثلما يكتمل الاستسلام والتسليم بفقدان حرية التعبير الذي لم يدركه الطفل الصغير فرفضه. الأهم في الأمر أن يستمر ذلك في العقول ويكبر ويكبر كلما زاد عمر الطفل، حتى إذا أصبح كبيراً أصبح بلا حرية، بلا إرادة. حفاظاً على الحياة المستقيمة.
ليس هناك أكثر خداعاً وأذية من الصمت على الأخطاء والسلبيات في حياتنا الاجتماعية والسياسية والعقدية، كي نبرز مدى الهدوء والطمأنينة والانسجام في الكيان الذي يسود فيه الصمت المجرم، والذي غالباً ما تحصد عواقبه الوخيمة مستقبلاً. ودائماً من مهمة العقل والعاقلين معرفة ذلك ومحاربته. بل من المهمات الجليلة استبعاد القباحات ونفيها، مثلما من الواجب تمكين القيم الجميلة والجليلة.
لماذا يسود الاعتقاد أن الهدوء الساكت هو عنوان النجاح. وهو الدليل على العقلانية والوطنية والوعي الرفيع؟!
إن الوطنية الرفيعة، والفاعلية الاجتماعية الإيجابية داخل أية جماعة، تنتج عن قلق العقل، أي توقده وعدم الاستسلام أو الركون لما لا ينسجم مع قيمه، وما من شك أن هذا هو الطريق الذي سلكته كل الشعوب التي نجحت في الانتقال إلى واقع أفضل وفعلت ما يتوجب عليها بإيمان والتزام.\
أخيراً، إننا نحلم بمن يستطيع إخراجنا من حال الإعاقة إلى حال الفاعلية بعد أن ظهر فشل تيارات واتجاهات بارزة على مستوى العروبة بكاملها. وأيها لم يفشل حتى اليوم؟!
العدد 1164 – 24-10-2023