الثورة – هفاف ميهوب:
نتابعُ الأحداث التي تتوالى، وتتزايد فيها معاناة الفلسطينيين، ولاسيما في قطاع غزّة، فنتضامن مع مناضليه، ونتألم لما يتعرّض له هذا الشعب من إباداتٍ، لا يستثني فيها العدوّ المحتل، لا المشافي ولا المدارس، ولا حتى ملاعب الأطفال، ممن ترك في حياةِ من بقي منهم، ألف ندبةٍ وندبة..
نتابع كلّ ذلك في وسائل إعلامنا، وعبر مواقع التواصل، والصفحاتُ التي تنقل ما تواكبه من أحداثٍ لايتوقف نزيفها.. الصفحات التي منها لأصدقاءٍ أدباء يعيشون في غزّة، ويشهد كلّ منهم، على ماشهده الشاعر والأديب الفلسطيني “طلعت قديح” ومذ هدير “طوفان الأقصى”، الذي جعله يخاطب العالم بأكمله، ولا سيما من يؤيد الغزاة ويدعمهم:
“غزة تكتب تاريخاً، لن يكون بوسع العالم تخيّله، فما رأيناه لن يحتمل الحبر كتابته”.
هذا ما كتبه “قديح” وما تلمّسه، ليكون أكثر ما أوقد غضبه، القصف الهمجي الذي قام به العدو الاسرائيلي، وأدى إلى ارتقاءٍ شهداء, مثلما انقطاع الانترنت والكهرباء.. أيضاً، مغادرته لبلدته “خزاعة” دون العودة إليها، بسبب قيام العدوّ باستهدافها وقصفها..
من هنا بدأت معاناته، وأخذ ينتقل من ملجأ إلى آخر، دون أن يتوقف عن تدوين يومياته، بل أحداث اللحظات القابعة في قلبِ النزيف، والتي جعلته يختلس الوقت ليكتب: “بعد قصفٍ عنيف”:
“في المدرسة التابعة للاونروا، تُمارس الحياة في أسوأ حالاتها، لايختلف شيء مما ترى أو تسمع عما كان قبلاً..
الأغطية لا تكفي، لا نوم إلا إعياء، فأصوات القصف لا تتوقف، والناس قسّموا أماكن المبيت قسمين: الصفوف للنساءِ والأطفال الأصغر من غيرهم، وأسفل المبنى الأرضي، المحمي بسقفِ باطونٍ مفتوح، للشباب فما فوق..”..
يكتب هذا، وهو يشعر بأن الوضع أكثر من مزر، بل ومن أن يتصوّره عقل.. لايتوقف، فكلّ ما حوله مجرّد أفقٍ مغلق، ووحده صوته من يخترق هذا المدى، ليُسمع العالم الذي لايعيش مأساته، بأن مايحيط به من قصفٍ ودمارٍ وموت وخوف، هو ما أفقده الاحساس بالوقت، وهو الدافع لكلماته:
“لم أعد أحسّ بالوقت، أتمنى أن يطول النهار ولا يأتي الليل، الليل متآمرٌ مع الخوف، والخوف ابنٌ لقيطٌ لرهبة الصوت.
الناس يتكلمون مع بعضهم، فقط ليمارسوا تحريك أفواههم، بدل أن يسكتهم القهر، يحاولون التنقيب عن الحكايا القديمة، يحلّلون، يثرثرون..”….
هكذا تمضي أيام “قديح”، وسواه من الفلسطينيين الذين يعيشون ضمنَ “مسافة أقرب للموت”… هكذا تمضي أيامه، ويواصل كتابة آلامه.. الكتابة التي كان يدفعه إليها، ما يعيشه من ترقّبٍ وخوفٍ وقهرٍ وظلامٍ وضجرٍ.. أيضاً، رغبته بأن يُطمئن الأصدقاء وكلّ من يسأل عنه، بأنه لا يزال حياً، وبأن توقّفه عن الكتابة، وحده ما يؤكد بأنه رحل.
أصبحنا فعلاً نسأل عنه، نخشى إن لم يكتب، ونتألم كلما قرأنا ما يكتبه تحت القصف، ونأمل أن تنتهي معاناته، الواضحة حتى فيما يكتبه:
“يباغتك الموت بصوته، فيصمّ آذانك، ويجرح عينيك من شدته… تتحسّس تفاصيلك، الأذن ليست كما كانت!..”.