الثورة- منال السماك:
على بسطات فوضوية مبعثرة على الأرض، يفترش الباعة منذ ساعات الصباح الأولى ليوم الجمعة بضائعهم على جسر كشكول، بضاعة تجمع المتناقضات وتغلفها الاحتمالات ويغمرها الغبار، تظنها للوهلة الأولى نفايات وكراكيب لن تجد من يلتفت إليها ليشتريها، ولكن كل سلعة هناك من يبحث عنها ليقتنيها. أكوام من الملابس تتناثر هنا وهناك، قطع بلاستيكية وأدوات حديدية و خرداوات، معدات كهربائية مكسورة أو ناقصة، وأحياناً تجدها تقارب الجديدة، سجاد وبطانيات منها المهترئة و منها لا بأس بها، حتى الأبواب المتهالكة والنوافذ الصدئة، أشياء لا تعد ولا تحصى تستفز العين بفوضاها، وتثير من حولها إشارات التعجب و الاستفهام وموجة من التساؤلات من أين يجلب الباعة هذه البضاعة العجيبة .
«لقطات»
دفعني فضولي لزيارة هذا السوق الذي يحتل مساحة واسعة على المتحلق الجنوبي، ما زال الوقت باكراً ومن ساعات الفجر يتدفق المتسوقون القاصدون لهذا السوق بكثافة غريبة، منهم من ينتظره بفارغ الصبر بعد أن أصبح مدمناً عليه حسبما يقول أحمد وهو زبون قديم اعتاد أن يقصده فيجد “لقطات”، يقول: آتي قبل طلوع الشمس لأخطف البضاعة الجيدة قبل غيري، وأغلب أغراض بيتي كالطناجر والصحون اشتريتها من هنا وهي تماثل الجديدة و بسعر زهيد جداً، فوضعي المادي لا يسمح لي بشراء الجديد.
«من هون لبردى»
على بسطة تضم أجهزة مطبخ كهربائية، يفاوض شاب لشراء أحد الأجهزة، حيث أجابه البائع بعبارة متداولة بهذا السوق ” من هون لبردى” وهو يعني أنه احتمال أنها صالحة أو لا، واقترح عليه أن يجربها بأحد المحال القريبة، و في حال كانت تعمل سيدفع زيادة عن الثمن المطلوب.
للفقراء
بينما الباحثون في أكداس الملابس مستغرقون بالنبش والتنقيب الحثيث على أمل العثورعلى قطعة مناسبة، تقول إحدى المتسوقات: اعتدت أن أشتري من هذا السوق لأطفالي، لأن أسعار الملابس غالية جداً ولا تناسب وضعي المادي، وغالباً ما أجد طلبي هنا، أما بقية الأسواق فهي ليست لنا نحن الفقراء.
ستوكات.. تصافي
عن مصدر هذه البضاعة يقول أحد الباعة الذي يفترش بسطة ألبسة ولادية جديدة: بضاعتي هي عبارة عن “ستوكات ” معامل الألبسة الجاهزة، وهي أرخص من غيرها، وتجد من يبحث عنها لأنها الأرخص مهما كانت حالتها. كذلك بائع آخر وقد افترش على قطعة قماشية بعض الإكسسوارات الجديدة وقطع المكياج الرخيصة وملابس أطفال صينية، حيث يأتي كل يوم جمعة ببعض البضاعة لبيعها في هذا المكان الذي يزدحم بالمتسوقين يوم الجمعة.
«كراكيب» لا حاجة لها
أما أبو طارق والذي كان يبيع الطناجر وبعض الأطباق، فقد أوضح لي أن بضاعته يجلبها من محلات المستعمل أو ممن يبيعون القديم من بيوتهم ليستبدلوه بالجديد حسب حالتهم المادية، وما لا يلزمهم يلزم غيرهم بل ويبحثون عنه في ظل غلاء الأسعار فأصبح اقتناء الجديد محالاً للكثيرين من ذوي الدخل المحدود. كما اعتاد أحد الباعة على التواصل مع من يريدون بيع أشياء تعد” كراكيب ” في منازلهم لا حاجة لهم بها، يقول: هناك كثير ممن أتعامل معهم لجلب البضاعة، وهم كل فترة يقومون بجرد محتويات منازلهم، ويبيعون الأشياء التي ليسوا بحاجة لها. تجلس امراة تبيع بعض الثياب المستعملة وعند سؤالها عن مصدر بضاعتها قالت إنها من بيتها وقد اضطرت لبيعها لحاجتها للمال لدفع آجار بيت تسكنه في منطقة جرمانا. و كذلك الأمر بالنسبة لبائع كان يعرض بعض الأدوات القديمة فقد قال إنه أول مرة يقف بهذا السوق وبضاعته من بيته ويريد بيعها ليجلب طعاماً لعائلته بثمنها، فالطعام أهم من أدوات المطبخ الكهربائية. بينما جلب أحدهم بعض الملابس المستعملة الكاسدة من سوق البالة بسعر الجملة، وهويعتمد على هذا العمل كمصدر رزق إضافة لعمله كموظف بسيط، وحسب تعبيره راتبه لا يكفي لمتطلبات أسرته.
منفعة متبادلة
تنوعت بضائعهم وتعددت أشكالها، وقاسمها المشترك أنها مخلفات مستعملة أو كاسدة، وهي عبارة عن بضائع يشترونها ممن يريدون تجديد مقتنياتهم المنزلية، أو من الخردة التي يرميها أصحابها للتخلص منها كي لا تشغل مساحة من بيوتهم الضيقة، إنها نوع من أنواع اقتصاد الظل الذي يمارسه بعض العاطلين عن العمل، أو ممن ضاقت بهم الحال في ظل الغلاء، وباتت محتويات سقيفة المنزل أو بعض الأدوات والملابس القديمة كنزاً بالنسبة للبعض وعوضاً عن رميها فإنها تتحول إلى بضاعة للبيع و الشراء خاصة في ظل الظروف المادية الصعبة لكثير من الأسر. لن تمر من هذا السوق إلا وقد عرض عليك البعض إن كنت ستبيع ساعة يدك التي ترتديها أو ما تحمله من أغراض، وإن كان لديك ما تريد بيعه من ثياب أو أدوات منزلية، و ربما ستعقد صفقة مع أحدهم لبيع كراكيب سقيفة منزلك دون أن تشعر.