الملحق الثقافي- د. سعدية بن سالم :
حين اكتشف الأوروبيون القارة الأميركية، الأرض الجديدة، لم يكتفوا بالاستيطان فيها ولم يهدأ لهم بال إلا بعد القضاء على السكّان الأصليين، لعلها الخشية من أن يلقوا في البحر يوماً ما أو لعلّها شهوة الدّم تلك التي كانت تحرّكهم فغلّفت بنظرة دونية لغير «الرّجل الأبيض»، وكانت المذابح التي استمرّت إلى أواسط القرن الماضي.
العقل الذي استوطن القارة الاميركية هو ذاته الذي ينزل بشرّه على أرض فلسطين، التخطيط ذاته وإن اختلف اللاعبون وتغيّر المكان والزّمان، كيان غاصب، يأتي من الشتات، يُجَمّع ويُدعم بالسّلاح والعتاد، والغطاء السياسي، والتشريعي، والخرافي.
كانت أوروبا حتى القرن السابع عشر تحتقر غيرها من الشعوب، وتحتقر اليهود تحديداً وتحاصرهم في وجودهم ورزقهم، تستهين بجنسهم وتعتبرهم رمزاً للشرّ المطلق، ولنا في كتابات القرنين السادس عشر والسابع عشر خير مثال فلم تكن تسمح لهم بامتلاك الأرض وكانوا يعوضون ذلك بالتجارة، وتضيّق على ممارساتهم الدينية فكان كثير منهم يدّعون التنصّر حتى يفلتوا من الرقابة، فما هم في أوروبا إلاّ عابرون وإن أقاموا، وما هم إلاّ أغراب وإن استوطنوا لأجيال، هكذا يقول التاريخ وهكذا يؤكّد الأدب ضمير الشعوب وصدى أمزجتهم، ويمكن أن نعود إلى كتابات كثيرة على غرار نصّ «يهوديّ مالطة» لكريستوفر مارلو، و»تاجر البندقيّة» لشكسبير وكتاب جيوفاني فيورينتينو (الأبله)، وهو مجموعة من القصص القصيرة الإيطالية طبعت في ميلانو عام 1558، وتصور اليهودي عاشقاً للدّم وهو الذي طلب ضماناً لماله المُقرض رطلاً من لحم صاحب الدّين، وكان اليهود ملزمين بوضع نجمتهم على صدورهم حتّى يتعرّف عليهم الناس، وكانوا يمنعون من ركوب المواصلات العامّة، وكان وضعهم صعباً في بلاد تحتقرهم، على خلاف وضعهم في البلاد العربيّة التي كانوا فيها مواطنين مكتملي الحقوق والواجبات من قبل أن تدرك أوروبا مفهوم المواطنة.
ثمّ كانت الحركات القومية في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما رافقها من حروب ودماء وتفكير في كيانات وطنيّة قوميّة، وفي ذلك الإطار بدأت بذور الصهيونية وتعاظمت مع أوروبا الاستعمارية، فتحالف رأس المال والحركة الامبريالية مع اليهود، فكان ظهور الحركة الصهيونيّة التي أعلنت عن نفسها أواخر القرن التاسع عشر مستغلّة الظرف التاريخي والقوة المالية والمزاج الأوروبي العام، ثمّ كانت أحداث الحرب العالمية الثانية لتكون الذريعة الأخيرة لتجميع الشتات في وطن خاصّ بهم، ولم يكن مهمّاً حينها أن تكون الأرض مأهولة بأصحابها، معجونة بعَرقهم وعِرقهم وثقافتهم وحضارتهم، لم يكن مهمّا حينها أنّ الأرض المختارة ليست في مكان قصيّ، ولم يعنهم أنّ الزّمن غير الزمن والمكان غير المكان، الهدف الوحيد أمامهم كان إعادة ما حدث في أميركا البشعة انسانيا، ومنذ نشأة الكيان ونحن نشهد محاولات التصفية التي اتخذت أشكالاً عدّة، بدأت بالتهجير والتقتيل والاغتيالات ووصلت اليوم إلى حرب إبادة وقد استولى الكيان على أغلب الأرض ومازال يواصل مخطّطه لابتلاع ما بقي قبل التشمير إلى غيرها في الجوار.
الحرب الغربية على فلسطين اليوم هي استئناف لحرب طويلة من الاستنزاف، فأوروبا الاستعمارية، قرّرت منذ قرون التخلّص من اليهود وإبعاد أذاهم، وما المحرقة «المزعومة» إلا تتويج لمزاج أوروبيّ عامّ من ناحية وهي ذريعة لتجميع ذلك الشتات المنبوذ، جنساً، والحليف مالاً، على أرضنا فيتقون شرّه ونبتلي به.
إنّ الحرب على فلسطين، حرب مكشوفة الأذرع والأدوات والأهداف، وإنّ أبناء الأرض بصمودهم يتصدّون إلى مخطّطات جهنّمية حُشدت لها الأسلحة، والذّخائر، والأموال والإعلام، بدماء الأطفال التي تسفك أمام أعين عالم يتصدّى أصحاب الأرض لمشاريع التهجير والتوطين في أرض غير الأرض.
أزاحت الحرب الدائرة على الأراضي المحتلة آخر أوراق التوت عن عورات العالم الغربي الذي يكيل بأكثر من مكيال، وجعلت ركائز حضارته الإنسانية التي يتباهى بها هباءً مبثوراً وثبت أنّ حقوق الإنسان الكونية مجرّد كذبة، شأن أكاذيب كثيرة، تاجَرَ بها الغرب واتخذها ذريعة للتدخّل في شؤون الدول الأخرى.
أثبتت الحرب الأخيرة أنّ شعب الجبّارين ليس مستعدّاً لترك الأرض وإعادة مآسٍ قديمة، أثبتت أنّ الفلسطيني يولد كبيراً ناضجاً ولا وقت له ليعيش طفولته كالآخرين، أثبتت أنّ ما أُخِذَ بالقوة لا يستردّ إلاّ بالقوّة، ولكن.. ألا يستحقّ هذا الشعب الصامد الصابر أن يفزع إليه إخوته وبيدهم فعْل الكثير؟ أليس الحقّ في حاجة إلى قوّة تدعمه؟ أليس للعرب مشروع استراتيجي يأخذ في الاعتبار أنّ للفلسطينيين وطناً مسلوباً لابدّ من استرجاعه؟
انكلترا، التي وهبت ما لا تملك لمن لا يستحقّ، وأوروبا التي تقيّأت ما يؤذيها، على أرض فلسطين وأميركا راعية الإبادة الجماعية، أما آن لهم أن يمثلوا أمام محاكم جزائية دولية جرّاء ما اقترفوا؟
ما يحدث على الأراضي الفلسطينية، ليس حرباً، إنّه محاولة إبادة في استعادة لما حدث في أميركا، وكلّ سكوت عن هذا الوضع مشاركة في الجريمة.
بنزرت – تونس
روائية وناقدة تونسية
العدد 1168 – 23-11-2023