صفحات من تاريخ الصحافة المقاومة

الملحق الثقافي-نجاح الدروبي:
تمتاز العامة من الذوات الفلسطينية بالوطنية اليقظة.. بالقومية الجامعة.. بالعاطفة الغيرية، ونزق الغضب العاصف من الغريب المحتل، إنعاشاً للحرية وطلباً للعودة، فكيف إذا كانت تعضدها إشراقات العروبة المُشعَّة التي قطفت رؤوساً أينعت طمعاً بأرضها وثرواتها فحان قطعها؟.
أسوقُ وجبةً دسمةً من تاريخ الصحافة الضاربة جذورها في المجتمع الفلسطيني، كونها تتسم بالتعبئة الجماهيرية.. بالتحريض ضدَّ المحتل.. بكنسه عن الأرض المقدَّسة منذ نهاية الحكم العثماني حتى النكبة الدامسة. تطوَّرت خلالها الصحافة الفلسطينية تطوراً مهنيَّاً حتى ساهمت في تشكيل الوعي السياسي والثقافي للقرَّاء، وصارت منبراً لرجال الإصلاح وحاملي لواء الوطنية.
ولعلَّ فلسطين أقدم دولة عربية عرفت الطباعة (1830م)، ومرَّت بتجاربها المبكّرة بسبب غنى مركزها الديني كمهبطٍ للديانات.. والاهتمام بالطباعة يعكس الاهتمام بالصحافة الأداة الإعلامية المتاحة والصوت المعبِّر عن آراء الجماهير والطوائف من ناحية والحكومات من ناحية أخرى، فمنذ نشأتها عام (1876م) مرَّت بالمراحل المختلفة متأثِّرةً بالظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية المتعاقبة على فلسطين، وكانت سيف الحق القاطع وشكيمة الظالم تدكُّ معالمه كما دكَّت السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وهزَّت عرشه فقال بعد خلعه: «لو عدْتُ إلى قصر يلديز لوضعتُ مُحرِّري الجرائد كلّهم في أتُّون كبريت».
ويرى الأكاديمي الفلسطيني الدكتور مصطفى كبها في كتابه :(تحت عين الرقيب.. الصحافة الفلسطينية ودورها في الكفاح الوطني بين الحربين العالميتين)، أنَّ نشوء الصحافة كان لتلبية احتياجات الأنظمة والحكام العاملين على نشر الأحكام والقوانين، فبعد أكثر من ثلاثين عاماً على إدخال الأحرف المطبوعة إلى فلسطين أصدرت السلطات العثمانية صحيفتي: (القدس الشريف – الغزال)، ونال المتصرِّف في القدس حقَّ إصدارهما، رابطاً عملية الحصول على ترخيص لإصدار صحيفة بصعوبات وتعقيدات إدارية جمَّة.
ورغم عزوف أغلب المثقفين عن الاشتغال بالصحافة نتيجة التعليمات السلطانيَّة المُلزمة بطمأنة القرَّاء على صحة السلطان؛ إلا أنَّ أسماء كثيرة من الصحف لمعت خلال فترة الحكم العثماني المتأخِّرة لتعكس رغبة جماهيرية نحو التحرُّر والتطور الاجتماعي والتقدُّم.
كتب عبد الله العيسى صاحب جريدة الأصمعي (في العدد التاسع تاريخ 1/1/1909):
-(ليس في كثرة الجرائد عميم فائدة، إذ كثيراً ما نرى الخبر الواحد تتناوله عدة جرائد بحرفه الواحد، وكثيراً ما نراها متشابهة في جميع أبوابها إلا ما كان من تفاوت مُحرِّريها في التحرير.. وبسبب غياب التجربة الصحفية فإنَّ الصحفيين الأوائل تحمَّلوا عناء مسؤولية لا يملكون فيها خبرة، ولا يعرفون كيفية صناعتها وتوفير أسباب نجاحها ولا حتى مستلزماتها)، ولهذا السبب يعود ظهور الصحف لفترة محددة ثم اختفاؤها فجأةً.
ومن الصحف السياسية الصادرة في القدس: (القدس- الصحف- الإنصاف- النجاح- النفير)، والكرمل في حيفا عام 1908م.
وفي عام 1909م صحيفة يافا، ومنها الاعتدال والأخبار والأسبوعية وفلسطين عام 1911م للأخوين عيسى ويوسف العيسى، والمنادى 1914م في القدس لسعيد الجار الله ومحمد موسى المغربي الذي أصدر أيضاً المنهل الأدبية عام 1913م.
ولم يقتصر النشاط الصحفي في العهد العثماني على الصحف السياسية بل ظهرت أيضاً عدة مجلات أدبية عالجت شؤون سياسية. وقامت الصحافة الفلسطينية في تلك الفترة بخدمة الحاجات المحلية في البلاد أدَّت إلى تقوية الروح المحلية والإحساس بالوعي، وسعى أصحاب الصحف إلى معالجة المشكلات الناتجة عن ظروف الاحتلال فأصبحت الدعوة إلى الإصلاح من أهمِّ موادها، وتوقَّفت معظم الصحف البالغة ستاً وثلاثين منها: السياسية والأدبية والهزلية، عن الصدور لاندلاع الحرب العالمية الأولى ولمدة أربع سنوات لتبدأ الصحافة الفلسطينية مرحلة جديدة في ظروف سياسية واقتصادية مختلفة، تهافت الناس على قراءة الحوادث ذات الصلة بمستقبلهم ومستقبل بلادهم بعد أن أعلن الحاكم العسكري عام 1919م إلغاء الرقابة على الصحف فعادت الكثيرمنها إلى الصدور، بالإضافة إلى صحف جديدة بلغت حتى عام 1929م (45) صحيفة.. وتوصف الفترة بأنَّها تبلور مهني وفكري.
لكنَّ الصحف المذكورة واجهت ما يُعرف في الأدبيَّات الفلسطينية بثورة البراق وإنشاء الأحزاب الفلسطينية، فبدأت الحركة الوطنية مرحلة مهمَّة من تاريخها سقط خلالها الكثيرمن القتلى والجرحى: عرباً ويهوداً، فقدَّر الناس أهمية الصحف كمصدرمهم للمعلومات، خاصةً أنها عكست الخلافات داخل الأحزاب الفلسطينية والانقسام في المجتمع الفلسطيني ومن بينها: (النزاعات «القروية- المدنية».. التوترات على خلفية طائفية.. الموقف من الزعامات التقليدية)، وتبنَّت الصحف القضايا الوطنية العامة ضدَّ نشاط «الحركة الصهيونية» ومعارضة بيع الأراضي لليهود، والسعي إلى وفاق وطني، وتحسين صورة الإنسان الفلسطيني.
ورغم أنَّ الاحتلال البريطاني أعلن عدم وجود رقابة على الصحف؛ إلا أنَّ طبيعته لم تمنعه من التدخُّل في عملها، عندما أصبحت تُعبِّر عن القوى والأحزاب والمؤسسات الفلسطينية المختلفة الداخلة في صراع متعدِّد الأوجه مع الاحتلال البريطاني والحركة «الصهيونية» وفيما بينها.
لجأ البريطانيون إلى التعامل مع الصحف وأعادوا تطبيق قانون المطبوعات كما ورثوه عن سابقيهم العثمانيين، مُنشئين مكتباً خاصاً للرقابة؛ فاتهمت الصحافة العربية السلطات البريطانية بإيثار الصحف العبرية على العربية، وبأنَّها تغضُّ الطرف عن تحريض الصحف العبرية على العرب بينما يتحرَّك الرقيب بشكلٍ قاسٍ ضدَّ الصحافة العربية، وعندما تغضب السلطات البريطانية تلجأ إلى إغلاق الصحف، ولكنَّ الأوامر العسكرية البريطانية تجاوزت كلَّ الحدود الرقابيَّة مع تطورات الأوضاع، ففي أيلول 1938م أصدرت أمراً بعدم نشر أيِّ خبر يتعلَّق بكلِّ حادث يقع في فلسطين ما لم يُنشر في التقارير الرسمية.
وكان على الصحافيين إيجاد السُّبل للتحايل على الرقابة بسبب تعرُّض كثيرمنهم للسجن كاعتقال الصحافية والأديبة ساذج نصار سنة 1939م.
ويورد الأكاديمي مصطفى كبها في كتابه عدد الصحافيين العاملين في الصحف خلال فترة بحثه قائلاً: (عمل نحو 253 صحافياً، منهم 233 فلسطينياً، و8 سوريين، و5 لبنانيين، و4 مصريين، وهندي واحد).
ومن المعلوم أنَّ ثقافة الصحافيين تباينت كذلك تحصيلهم العلمي ومستواهم المهني، لكنَّ معظمهم كانوا من أصحاب المواقف السياسية المؤثِّرة في فترة فوَّارة تاريخياً بالأحداث والمواقف ضد «الأفعى العنصرية» فقد رفضت الصحافة الفلسطينية «الحركة الصهيونية» في الماضي كما اليوم، كاشفةً أطماعها للاستيلاء على فلسطين منذ عام 1908م، بعد صدور الدستور العثماني وسماحه بإصدار الصحف وترخيصه لها.
وواصلت الصحافة مهماتها نابضةً حروفها بالحسِّ الوطني منذ بزوغ خيوط فجرها الأولى، مُعَرِّيَةً «الحركة الصهيونية»، وكانت الكرمل لصاحبها نجيب نصَّار الصادرة عام 1908م في حيفا السبَّاقة لتنبيه العرب للخطر الصهيوني وضرورة التصدِّي له قائلاً: (نحن نعرف أنَّ الصهيونية هدفها احتلال بلادنا ومرتع طفولتنا)، وتمكَّن نصار عام 1910م، من شنِّ حملة ضد «الصهيونية» متزامنة مع صحف عربية أخرى كانت تأخذ عنها ومنها: (القبس، المفيد، الحقيقة، الرأي العام، حقيقة الأخبار، فتى العرب، الإصلاح).
وفي عام 1911م صدرت جريدة فلسطين لصاحبها عيسى العيسى، وهي أطول الصحف الفلسطينية عمراً (1911 – 1967)، حيث نافست (الكرمل) في التصدِّي للحركة «الصهيونية» وللانتداب البريطاني.
بعد انتهاء الحكم العسكري البريطاني الذي شلَّ الصحافة عاد بعضها للصدور، ومنها: (الكرمل – فلسطين) مع عدد جديد من الصحف منذ السنة الأولى للانتداب البريطاني. وبلغ عدد الصحف الصادرة في العشرينات (48) جريدة ومجلة، بينما ظهرت أولى الصحف السياسية اليومية مثل: (الصراط المستقيم) لصاحبها الشيخ عبد الله القلقيلي المُنضمَّة للصحافة الوطنية بهدف التصدي «للصهيونية ووعد بلفور والانتداب البريطاني».
المثقفون الفلسطينيون اهتموا بالصحافة كمنبر وطني للتعبير عن الآراء، وشارك الأدباء والكتَّاب من خلال المجلات الأدبية كـ(روضة المعارف – الكلية العربية – الغد)، ومن الأدباء والشعراء المساهمين في الحركة الوطنية والمشتغلين بالصحافة: (خليل بيدس – خليل السكاكيني – إسعاف النشاشيبي – وديع بستاني – عبد الرحيم محمود – فدوى طوقان – محمد خورشيد العدناني – عيسى البندك – عصام حماد – أبو سلمى، وغيرهم).
كانت الأولويات على أجندة الصحافة ثابتة في الثلاثينات كما البداية (الأرض – الهجرة اليهودية – تسرُّب الأراضي لليهود) ثلاثيَّة النار المُؤدِّية كسبب رئيس لوقوع الاشتباكات بين اليهود الغاصبين المعتدين والعرب أصحاب الأرض الحقيقيين. وقد اعتبر العرب «بريطانيا» شريكة «للصهيونية» في سرقة الأرض فعكست الصحافة الفلسطينية مجريات الواقع وأخلصت في كشف الحقائق أمام الشعب ما زاد غضبه وأشعل فتيل ثورة القسام عام 1936م، المتجلِّية في إضراب الشهور الستة من خلال عمل مُنظّم ينمُّ عن وطنية ملتزمة.
ولعبت الصحافة الدور الأساس بالدعوة للإضراب والالتصاق بأفراد الشعب، كجزء من قادة الرأي العام المدافع عن مصالحهم على نطاق واسع، ونشرت الأخبار المُساندة للثورة الفلسطينية في البلاد العربية، ونشاط الوطنيين والمجاهدين الأردنيين والبدو ممَّن مدّوا المقاومين بالسلاح.
لم يَخَفْ ولم يضعف الوطنيون والصحافيون من عقاب السلطة، وغصَّت السجون بهم، وظلَّ نشاطهم يغيظ العدو.. يكتبون من خلف القضبان بحبر دمائهم مقالات بركانيَّة ضد الغريب المحتل ثم يُسرِّبونها للصحافة العربية لنشرها في جريدة (الشورى) لصاحبها محمد علي الطاهر الصادرة في القاهرة، ومن بين الصحافيين في السجون: (أكرم زعيتر، بهجت أبو غربية، صبحي الخضرا، إبراهيم الشنطي).
كما رفع الشعراء في سني الثورة معنويات الشعب، وهرعوا لاستقبال المُفرج عنهم من المناضلين الأحرار، وظلَّ شعر عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان يُردَّد على كلَّ لسان عربيٍّ مُبين، فصمد الشعب الفلسطيني المُعذَّب، اجتماعياً واقتصادياً، تحت الانتداب البريطاني، وواصل اهتمامه بقراءة صحافة البلاد المنتشرة في المدن والأرياف وأحياناً في البوادي حتى وصل عددها خلال الفترة (1933 – 1948م) ما يقارب (147) صحيفة ومجلة باللغة العربية بشكل أساس ولغات أخرى كالعبرية والإنجليزية وغيرها، واستمرَّت خلال الحرب العالمية الثانية في حمل رسالة التوعية والتنوير تجاه مخاطر الاستيطان الذي بدأ يشتدُّ عوده في الوقت الذي بدأت الصحافة الفلسطينية بالتطوّر؛ بسبب الحراك الاقتصادي المُواكب للتوسُّع في الجانبين الصناعي والتجاري في فلسطين وازداد عددها، كما شهد الجانب النقابي تطوراً ملحوظاً من خلال إصدار صحيفة الاتحاد الأسبوعية ذات التوجُّه الماركسي (1944).
وفي الفترة بين (1945 – 1948) بلغ عدد الصحف حوالي (68) منها تسع صحف سياسية أهمها الشعب في يافا برئاسة كنعان أبو خضرا، وصحيفة الشعب الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي في القدس عام (48)، ورئيس تحريرها عبد الله حجاوي؛ وبقيت الصحافة الوطنية تكتب كما كتب روَّادها وتنبَّؤوا فزاد العبء عليها بازدياد سلسلة المؤامرات الاستعمارية، كما حصل تجاه قرار التقسيم، إذ نشطت الصحافة في فضح سياسة الحكومة البريطانية تجاه الهجرة وطرائق عمل المستعمرين؛ ما جعل حكومة الانتداب تدرك خطورة آفاقها، فأصدرت نظام الطوارئ سنة 1945 المتضمَّن تشريعات صارمة ضدَّ الصحافة الفلسطينية؛ وأسرعت بتنفيذ «وعد بلفور» مع «الحركة الصهيونية» فتمَّ تحييد الصحافة الوطنية؛ وتأسيس صحيفتين صهيونيتين باللغة العبرية، وشرعت الأحداث تتفاقم بشكل سريع خاصة مع انسحاب القوات البريطانية وبداية حرب 48؛ إلا أنَّ الصحافة الفلسطينية المتسمة بموقف موحَّد لعبت دوراً رئيساً في تأجيج المشاعر، وتوفير أرضيَّة خصبة للجيوش العربية من أجل الاستمرار في الحرب، وشرعوا يكتبون داعين لحرية وتحرير الوطن من دنس الغريب.. كما يكتبون اليوم ليؤكِّدوا على حقهم بالعودة إلى أرضهم وبيوتهم التي يحملون مفاتيحها ويُسلِّمونها للأحفاد.
                        

العدد 1169 –  28-11-2023   

آخر الأخبار
إعلان بغداد: الحفاظ على أمن واستقرار سوريا واحترام خيارات شعبها للمرة الأولى.. انتخابات غرفة سياحة اللاذقية ديمقراطية "الاتصالات " ترفع مستوى التنسيق  مع وسائل الإعلام لتعزيز المصداقية مياه " دمشق وريفها: لا صحة للفيديو المتداول حول فيضان نبع الفيجة  "موتكس" يعود كواجهة لمنتج النسيج السوري إطلاق الوكالة الأولى للسيارات الكهربائية بسوريا وتوريد أول 500 سيارة  ورشة العدالة الانتقالية توصي بتشكيل هيئة ومعاقبة المتورطين بالجرائم  "بطاطا من رحم الأرض السورية"..  مشروع وطني يعيد تشكيل الأمن الغذائي   مشاركون في قمة بغداد: مواصلة دعم سوريا ورفض أي اعتداءات  الوزير الشعار "يطمئن" على معمل الليرمون  بعثة طبية لـ"سامز" تستهدف عدة مستشفيات في سوريا الشيباني أمام قمة بغداد: سوريا لجميع السوريين ولا مكان فيها للتهميش أو الإقصاء البنك الدولي: سعداء بسداد متأخرات سوريا ومجال لإعادة التعامل  بمشاركة سوريا.. انطلاق أعمال القمة العربية الـ 34 في بغداد  ArabNews: فرصة تاريخية لانطلاقة إيجابية في بلاد الشام م. العش لـ"الثورة": قطاع التأمين سيشهد نقلة نوعية تطوير مهارات مقدمي الرعاية الاجتماعية في درعا   تحت إشراف مباشر من محافظ السويداء، عدد من طلبة السويداء يتوجّهون اليوم إلى جامعة "غباغب"..   كيف يواجه الأطفال تحديات التكيف بعد سنوات من اللجوء؟  استثناء الطلاب السوريين المتقدمين للشهادة اللبنانية من الحصول على الإقامة