الملحق الثقافي- د. ثائر زين الدين:
علا صوتُ المُغنّي وهو ويضربُ بالعود:
عجبتُ لمسراها وأنّى تخلَّصتْ
إليَّ وبابُ السجنِ بالقفلِ مُغلَقُ
ألمَّتْ فحيَّت ثمَّ قامت فودَّعتْ
فلمّا تولَّت كادت النفسُ تُزهقُ
فلا تحسبي أنّي تَخشَّعتُ بعدكم لشيءٍ ولا أني من الموتِ أفرَقُ
ولكنْ عرتني من هواكِ صبابةٌ
كما كنتُ ألقى منكِ إذْ أنا مُطلَقُ
فأما الهوى والودُّ مني فطامحٌ
إليكِ وجثماني بمكَّة موثَقُ
وكان الخليفةُ يُنصتُ وتغرورقُ عيناهُ بالدموع؛ ولعلَّهُ طلبَ إلى المغنّي أن يُعيدَ الصوت مرَّةً وأخرى.
الأبياتُ من قصيدةٍ للشاعر جعفر بن عُلبة الحارثي، وهو من مُخضرمي الدولتين الأمويّة والعباسيّة، حُبسَ، ثمَّ قُتل عام (148 هـ =762 م).. وقد عرضَ بعض أخباره أبو الفرج الأصفهاني في الجزء الثالث عشر من كتاب «الأغاني»؛ الذي هو واحد من أغنى الموسوعات الأدبيّة في تاريخ العرب.
كتبَ الأصفهاني عن الصوتِ السابقِ:
«الشعرُ لجعفر بن عُلبة الحارثي، والغناءُ لمعبدٍ ثقيل أوَّل بالسبابة في مجرى البِنصر عن إسحاق، وذكرَ عمرو بنُ بانة أنَّ فيه خفيفاً ثقيلاً أوَّلَ بالوسطى لابن سُريج، وذكرَ حمّادُ بن إسحاق أنَّ فيه خفيف الثقيلِ للهُذلي»، والجديرُ بالذكر أن المصطلحات الموسيقيّة التي استخدمها الأصفهاني، والتي تتعلّق بآلة العود، ما استطاع أحدٌ حتى يومنا هذا فكَّ رموزها من المستشرقين والمستعربين والباحثين العرب؛ لغياب أي شكل من أشكال «التنويط» أو الكتابة الموسيقيّة، والاكتفاء بمصطلحات ربطها بعض الدارسين بالمقامات الموسيقيّة العربيّة دون أن يتمكّنوا من تطبيق ذلك عمليّاً، لقد أسهم تنوّعُ الآلات الموسيقيّة وتطوّرها في العصرين الأموي والعباسي، ولاسيّما العباسي، في تطوّر الغناء وازدهارهِ؛ حيث انتشر استخدام الدفوف والربابات والصنوج والمزامير والنايات والطبول؛ وقبل هذه الآلات جميعاً العود ذو الأوتار الأربعة ومن ثمَّ ذو الأوتار الخمسة، ولقد كان العود كما عبّر القلقشندي:» أفخر آلات الطرب، وأرفعها قدراً، وأطيبها سماعاً»، ومما ذُكرَ أن أجمل الجلسات الموسيقيّة في ذلك العصر هي تلك التي اجتمعَ فيها برصوما بمزماره، وزلزل بعوده، مع معلِّمهما إبراهيم الموصلي في مجلس هارون الرشيد، وقد كان إبراهيم الموصلي مدرسةً في الغناء والتلحين تتلمذ له عشرات كبار المغنين ممن انتشروا بعد ذلك في مشرق العالم الإسلاميِّ ومغربه حاملين أغنياته وألحانه وأشعاره ومن أبرزهم ابنه إسحاق، وبرصوما وزلزل وسواهم.. وقبل هؤلاء كان قد ظهر في العصر الأموي عددٌ كبيرٌ من المغنين من أمثال طويس الذي يُعدُّ أوّل من غنّى بالعربيّة في المدينة، وابن سُريج الذي يُعدُّ أوّل من ضربَ بالعودِ على الغناء العربي في مكّة، والغريض وابن محرز ومعبد وغيرهم.
وإذا كان حضورُ العودِ في المنطقةِ العربيّة قد سطعَ في العصرين الأموي والعباسي وبعد ذلك في الأندلس عندما حمله إليها مغنون كبار كان أهمهم على الإطلاق زرياب (789-857) م تلميذ إسحاق الموصلي، فإنَّ إحدى الدراسات المقارنة لآثار سورية والعراق ومصر وفلسطين وتركيّا أثبتت أنَّ أقدم ظهور للعود كان في العراق في العصر الأكادي نحو (2350-2170 ق.م.)، على ضوء ختمين أسطوانيين من مقتنيات المتحف البريطاني، ومن ثمَّ انتشرَ في البلاد وكان الآلة الموسيقيّة المفضّلة في العصر البابلي (1950-1530 ق.م.)، وكان صندوقه على صورة حبّة كمثرى.. وقد صنعت ثقافاتٌ عدّة «آلات مشتقة من آلة العود منها البيبا في الصين، والبالالايكا في روسيا، واللوتا في أوربا الغربية وقد غزا قصور الأمراء والملوك في إسبانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، بعد أن أضافوا إليه الدساتين، التي هي حدود النغم حسب تعريف الكندي، وهي أربعة، أي هي العلامات التي تستعرض عنق العود لتعيين أماكن النغم، ويخلو العود الشرقي في الوقت الحالي من الدساتين»، وقد وضعَ موسيقيون أوربيون مثل سيبستيان باخ وهاندل قطعاً موسيقيّة للعود يومذاك، طبعت في إيطاليا عام 1507 م، وفي بريطانيا 1574 م، لكن العود اختفى من المشهد الموسيقي الأوربي بعد ظهور الغيتار والبيانو.
شهدت آلة العود تطوّراتٍ مهمة في صناعتها، وكان لأسماء مثل زرياب ويعقوب بن إسحاق الكندي (805-873 م.)، وأبو نصر الفارابي (874-950 م.) دور كبير جداً في إجراء تعديلاتٍ جوهريّة على هذه الآلة ومواد صناعتها وشكلها، وإبداع طرائق ونُظم العزف عليها، وضبط أصواتها ومواضع دساتينها.
وثمة اليوم عودٌ عراقي وآخر شامي وثالثٌ مصري، وهي لا تختلفُ فيما بينها إلّا قليلاً، وفي الشام لا تحتكرُ عائلاتٌ معيّنة حرفة صناعة الأعواد؛ بل هناك ورشات مختلفة صغيرة ومتوسطة الحجم في دمشق وحلب وحمص لصناعته، والمهنةُ تنتقلُ بالتعليم بين الصناع والحرفيين، ويقولُ المختصون إن صناعة العود الجيّد تحتاجُ أربعين يوماً، مع أن الأنواع التجاريّة العاديّة قد لا تحتاجُ صناعتها لأكثر من بضعةِ أيام.
ويقولون إنَّ خشب الجوز المخمّر هو الأكثر جودةً في صناعةِ العود، مع أنّه يُصنع أيضاً من خشب الزان والليمون والورد والأمانوس والمشمش، ومن المهم أن يكون عمر الخشب لا يقل عن خمس سنوات حتى يكون ثمّة ضمانة أنّه لن يتشقق.. وتصنعُ الأوتار من أمعاء الماعز والحرير والنايلون، ويعرفُ المختصون أن تلك المصنوعة من المواد الطبيعيّة أحنّ من المصنوعة من النايلون، لكن عمرها أقصر، ولا يُخشى على هذه الحرفة من الانقراض لأسباب عديدة، لكنها تعاني -شأنها شأن غيرها من الحرف-من طغيان الجانب الاستهلاكي، وتردّي النوعيّة في سبيل الربح، وكثرةِ الصنّاع بالنسبةِ لمحدوديّة الطلب.
وقد أدرجت اليونيسكو عنصر صناعة العود والعزف عليه في سورية على قائمة التراث الإنساني الثقافي اللامادي بقرار صدر العام الماضي بعد جهود مثمرة لوزارة الثقافة السوريّة والأمانة العامة للتنمية….
العدد 1169 – 28-11-2023