الملحق الثقافي- علم عبد اللطيف:
ليس جديداً القول: إن الدعوة إلى التحديث والأخذ بالحداثة، كان نتيجة التواصل مع العالم الغربي تحديداً من خلال الترجمات والمثاقفة، وهي مسألة موضوعية تاريخية، تكسر الجمود، وتتيح الاطلاع على ثقافة الآخر، أو التعلم منها، خصوصاً إذا كان هذا الآخر منتجاً للفكر والفن والإبداع عموماً.
في بلدان الشرق، بدات كتابة الرواية بأدواتها الجديدة، بعد أن كانت أقرب إلى الحكائية في سرديات القص العربية، وتم الأخذ بالتفريق بين الرواية والقصة القصيرة أيضاً بعد الاطلاع على ما أنتجه الغرب في هذا المجال، ولم تكن الفترة الزمنية التي سبق فيها الغرب بقية بلدان العالم طويلة، حيث شهد العالم ومنه منطقتنا العربية حراكاً سريعاً، واكب انطلاقة التحديث في أوروبا بهذا القدر أو ذاك.
هنا يجب التوقف قليلاً عند مفهوم الحداثة ذاتها، والتي هي معطى من معطيات التنوير والعقلنة في أوروبا، عقلنة الفكر أولاً. بتحريره من تابوات الماضي الدينية والاجتماعية، وإخضاع النصوص للعقلنة إياها، أي دراستها منفصلة عن متعلقات القداسة والتاريخ واعتبارات المجتمع المتعددة، وحقيقة هذه نتيحة وليست سبباً أو أصلاً نتيجة فصل بين زمني وديني أتاح في خلال قرنين من الزمن ثقافة تحديث الحياة ذاتها، الحياة التي بدات طوراً جديداً مع الثورة الصناعية في أوروبا.
هنا…إذا أردنا العودة إلى المفاهيم،. لا بد أن نستذكر مقولة ماركس، الواقع هو الذي ينتح الفكر، بنية تحتية هي الواقع وما تم من إنجازات على الأرض، تنتج بنية فوقية هي الأدب والفن والفكر عموماً هذه البنية الفوقية تتمثل الواقع وتأخذ منه مادتها الإبداعية، وتؤثر فيه أيضاً من خلال جدلية تاريخية، تحيل فيها الظواهر مفاعيلها إلى بعضها.
بعد هذه المقدمة التنظيرية، يمكننا القول: إن الحداثة كحالة موضوعية، لم تصل إلى بلداننا، ما وصل هو ملامسة خارجية للحداثة، لا تعدو كونها تقليداً للآخر.
الغرب أنتج مدارس فنية وأدبية، نقدية والسنية وفنية، وهي مدارس شكلت بمجموعها ثورة التحديث، ولم تدع جهة أو طرف فضل الوصول قبل غيرها إلى حالة حداثية، فهي تعرف أنها نتاج بعضها وأن جاءت مخالفة أو مختلفة، لم تلغ الرومانسية الكلاسيكية، ولم تقصِ التعبيرية الشكلانية، ولم يقل التفكيك أو السوريالية أن أحداً منهما هو بديل تراث كبير، يمتد عبر قرون وقرون، بل تضافرت لتصنع حالة فسيفساء حداثية، منها ما كان له صفة مؤقتة، باعتبار أن مرحلة معينة أنتجته، وانتهى بانتهائها، أو تراجع الاهتمام به بعد أن فقد رافعته الواقعية، كالحرب مثلاً، ولاتزال الحداثة تنتج أشكالاً مستجدة لا تتوقف، لأن مفهوم الحداثة ذاته يوجب التجاوز دوماً، وعدم التوقف والاستكانة إلى شكل نهائي في الإبداع، انطلاقاً من مبدأ عدم قداسة الظواهر ذاتها، ومنها النصوص الأدبية.
هنا يثور سؤال الحداثة لدينا، هل نحن حداثيون؟ وكيف، هل عرفنا ثورة صناعية أو إنتاجية؟ هل سلمنا بإسقاط القداسة عن النص؟.
المعروف أن المقدس يغيب التاريخي، والعكس صحيح، التاريخي يحيّد المقدس وهو ما فعله عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون، مشكّلاً ظاهرة جديدة وجريئة في قراءة التاريخ، التاريخ الذي يفسر الظاهرة، ولا تفسره باعتبارها من صنعه.
نخلص للقول: إن ادعاء الحداثة لدينا في الشرق عموماً ليس أكثر من توق لها، ومن هنا نفهم حالة التماهي مع الغرب في إنتاج الأشكال الفنية والإبداعية، تماهٍ لا يخرج عن التقليد في عموم الحالات، وهو أمر أيضاً مفهوم، وربما مستحب، إذا كانت أدوات الإبداع ستفعل فعلها في جدلية التأثير المتبادل بين الواقع والظاهرة الإبداعية.
لكن.. هل حدث هذا فعلاً في بلداننا؟
نعود إلى التاريخ القريب، ما من أحد يهتم بالحداثة أو يدعيها، لا يعرف اسم أدونيس مثلاً، ولا يمكن تصور ولوج حالة حداثوية من دون الرجوع إلى تنظيرات هذا الأديب، ترجماته وإبداعاته الحداثوية.
حتى الآن، يقف الجميع أمام نصوصه المعلمة، باعتبار نصه فعلاً معلماً، كيف؟ نحن نقرأ نصاً، أي نص، ونكون أما متعلمين أو معلمين، النص الذي يضيف إلى ثقافتنا وفكرنا، بموضوعه وشكله، هو معلّم لنا، والنص الذي ننتقده بسبب نواقص أدبية أو قواعدية، أو بسبب تواضع قيمته، نكون أمامه معلمين، ومن هنا حقيقة بدات ظاهرة النقد، وضع نقاط على أحرف سقطت عنها لهذا السبب أو ذاك، ويتعلق بمستوى الكاتب أساساً.
سنخصص أكثر، بدا تحديث الشعر في منطقتنا في مرحلة كانت تحمل تباشير التغيير والانطلاق، مرحلة ترسيم الوطن ذاته، وفق تصورات المبدعين، فرسم الرحابنة في لبنان وطناً يتمنون الوصول إليه، وصاح السياب مبشراً بالمطر في العراق، وهكذا، وقدم أدونيس نصه الحداثي وفق محددات سوزان برنار، لكن هذا كله، لم يكن نتاج مرحلة مؤسسة سابقة عليه أنتجته كنا في تنظيرات برنار عن الشعر في فرنسا، فهل يخلق الفكر الواقع خلافاً لحسن الذكر كارل ماركس؟.
هذا ما حدث، لا بأس، هي ليست بكائية على الحداثة، لكن بدا أن الحداثة نفسها كمفهوم، وليس كحالة لم توجد أصلاً، تبكي ذاتها. حين لم يستطع رواد الحداثة والتحديث إنجاب أبناء يحملون إرثهم وليس جيناتهم، وبدا التحديث مع جمهور الحداثويين هو التخلص من محددات الفراهيدي فقط، هذا الفراهيدي المسكين الذي لم يلزم أحداً بمحددات وزن أو بحر، فقط عين وسما الإيقاع وميزه وعدده.
نعم، لا أحد ينكر وحود نصوص تستجمع عناصر الحداثة في الشعر الذي يكتب الآن. ونعرف كم هي القامات التي اضطلعت بمهمة التحديث عالية، لكن ..ونعود إلى هذه اللاكن ونحن نشعر بالأسى، كم عدد هذه القامات في كل الشرق الآن، ولماذا يتم التركيز على أدونيس والماغوط باعتبارهما أيقونة، لماذا لا تتعد الأيقونات؟ لما حدث القطع المريب بين جيل المؤسسين ومن تلاهم من مدعي التلمذة على أيديهم؟ ما هي قيمة الحداثة في آلاف أو ملايين النصوص المتشابهة أو المأخوذة عن بعضها؟ هل حقق النص الحداثوي بعد جيلين من انطلاقة حركة التحديث بعضاً من مقاصد التحديث ذاته؟ وهل عمقت هذه النصوص الفكر أو الثقافة؟ أو هل كانت تمثيلاً حقيقياً عن مستوى التقدم أو التراجع الحضاري في المجتمع لم تستطع أشكال التعبير الإبداعي التي سبقت؟.
هي أسئلة نسوقها فعلاً بأسى المصدوم
في السؤال عن جيل الحداثة وجيل من سبقه، أيهما كان أكثر تأثيراً في المشهد الثقافي، نقول: إن حداثة لم تولد، أو أنها ولدت خديجة، لم يكتمل تخلقها بسبب عدم إتمامها مدة الحمل في الرحم، ولم تتوفر لها حاضنة مصنعة حتى تضمن حياتها، لا يمكن أن تؤثر في مشهد له صفة التاريخية، بمعنى أن التاريخ هو ليس حكماً وقاضياً فقط، بل هو المعلم الأصل، في وقت نشهد فيه بعد فترة طويلة من كيل الاتهامات وممارسة الاقصاء بين طرفي الحداثة والكلاسيك. تراجعا ملحوظا على مستوى التقبل لدى القراء والنقاد والمهتمين، بقضايا الحداثة ذاتها أو حتى القراء العاديين والهواة، خاصة في الشعر، ولن نتحدث عن بقية الأجناس الإبداعية الأخرى، كالرواية والقصة والفن عموماً، خاصة الموسيقا والغناء والمسرح، فلهذه مكان آخر يمكن تناولها فيه.
(الزمن هو ابتكار الجديد أو لاشيء أبداً)
هكذا يقرر الفيلسوف الفرنسي برغسون..
استعار الغرب منتجات الحداثة واستخدموها، لكنهم بقوا معادين لما تعنيه فيما يختص بالتغيير في الواقع.
خصومة دائمة مع مفهوم الحرية، وعداء واضح للقراءة.
العدد 1171 – 12 -12 -2023