الثورة – حلب – جهاد اصطيف:
يعتبر “عرنوس البليلة” أو صحن الذرة الصفراء من الأكلات الشعبية التي اعتاد الكثير من أهالي حلب على تناولها بمختلف الأوقات، والتي تنتشر عادة عبر بائعين يقومون بتحضيرها وبيعها في الساحات والشوارع على عربات صغيرة أو كبيرة، غالباً ما كانت تتحلى بالزينة، لكن على ما يبدو باتت هذه الأكلة الشعبية مع مهنتها مهددة بسبب الكثير من العوامل.
باعة.. أغلبهم طلاب
يشتكي زيد- وهو طالب جامعي، من تكاليف المهنة التي يعتمد عليها، هو وغيره كثير، وهي بيع المأكولات الموسمية، واليوم يبيع “البليلة” على عربة يركنها أغلب الأحيان بالقرب من دوار الصنم، أو يجول فيها وصولاً إلى حي صلاح الدين مكان إقامته، رأسماله عربة وقدر كبير وغاز وبعض المستلزمات الأخرى.
يقول: لم تعد هذه المهنة كافية لأعيش منها، فقد ارتفعت التكاليف كثيراً ما انعكس بشكل كبير على سعر “عرنوس البليلة” التي من المفترض أن تكون أكلة شعبية تقليدية يستطيع الكل تناولها، لكن المبيعات بدأت تنخفض بشكل ملحوظ، أولاً بسبب ارتفاع الأسعار، وثانياً لأن الموسم قد قارب على الانتهاء بسبب دخول فصل الشتاء.
وهنا يضطر زيد لتبديل جرة غاز بين الحين والآخر، حيث كان يشتري الواحدة منها بنحو ٩٠- ١١٠ آلاف ليرة، وفي فصل الشتاء ارتفع سعرها إلى نحو ٢٠٠ ألف ليرة وهو رقم غير مسبوق، ويشرح السبب بقوله: إن “البليلة” بحاجة إلى السلق على الغاز، وإبقائها ساخنة طيلة الوقت، خاصة في ظل الجو البارد، فالذرة تحتاج إلى تشغيل النار بشكل شبه دائم من دون توقف، مع سعي زيد إلى التجوال خلال وقت البيع، على الرغم من أن نقل العربة ممتلئة أمر صعب للغاية على حد تعبيره، خاصة وأن عربته غير مرخصة، وفي حال ضبطته البلدية ممكن أن تصادرها.
ويردف قائلاً: الرأسمال اليومي حالياً زاد بين سعر الذرة ومواد تحضيرها ومستلزمات تقديمها من جبنة دهن وكتشب وملح وثمن الغاز وشحن البطارية وسواها، حيث كنا نبيع “عرنوس البليلة” الجيد بثلاثة آلاف ليرة، وقد رفع سعره مؤخراً مع ارتفاع سعر الغاز إلى الضعف وأكثر، وهو يحتاج أن يبيع يومياً نحو ١٠٠ عرنوس حتى يستطيع أن يعيد رأسماله ثم ما يبيعه فوقها يعتبر مربحاً خاصاً به.
عزوف
في المشهد الآخر اعتاد “محمد” أن يتناول كل يوم عرنوس ذرة عند الانتهاء من عمله مساء، لكنه عزف عن هذه العادة بعد أن وصل سعره إلى نحو ٦ آلاف ليرة، ويقول يكفيني هذا، وسأقلع عن هذه العادة على الرغم من بساطتها، فإذا أردت أن أطعم عائلتي من هذه الأكلة الشعبية التي من المفترض أن تكون بسيطة، فهذا يكلفني على الأقل ثلث راتبي الشهري، لذلك فلتنضم هذه العادة أيضاً إلى بقية القائمة التي تخلينا عنها، وهي أهم وأكبر بكثير من عادة تناول “الذرة الصفراء”.
وهنا يرى محمد أن باعة الأكلات الشعبية على ما يبدو باتوا يصنعون ثروة من رأسمال صغير، وكل مبررات الحديث عن ارتفاع التكاليف وما إلى ذلك مجرد لحن اعتادوا على عزفه، ويردف: لو افترضنا أن صاحب البسطة باع في اليوم “١٥٠ – ٢٠٠” عرنوس، هذا يعني أنه سيجني يومياً أكثر من مليون ليرة، ولو حذفنا نصف مليون ليرة تكاليف أو أكثر بقليل، فسيبقى لديه ربح صاف ليس بالقليل، وهذا المبلغ يعد ضخماً، ولك أن تتخيل كم يجني هؤلاء في حال كانت البسطة تبيع أكثر من أكلة شعبية واحدة!.
المبررات دائماً جاهزة
يبرر أصحاب البسطات في حديثهم عن عدم وجود ربح كبير، بأنهم لا يصلون إلى حجم مبيع يومي كاف في كثير من الأحيان، وخاصة بعد رفع الأسعار نتيجة ارتفاع التكاليف، وعلى الرغم من البيع القليل، يضطرون لتشغيل الغاز طوال الوقت وهدره للحفاظ على سخونة الذرة، ما يسبب لهم الخسائر، فالربح بالنسبة إليهم ليس يومياً كما يعتقد البعض- على حد تعبير “أبو إياد”، ويضيف لدي الكثير من النفقات، فأنا مضطر لوضع عامل معي بأجرة شهرية قد تصل إلى المليون ليرة، هذا الشخص يساعدني خلال النهار في التحضير والبيع، ويضاف إلى النفقات مستلزمات “عرانيس الذرة” الأخرى.
خلاصة القول..
يبدو من بسطة “زيد” الصغيرة وبغض النظر عن مردودها الضئيل أمام بسطات باقي البائعين، الذين يحجزون قسماً كبيراً من الأرصفة في الكثير من الأماكن بحلب وأسواقها أمام مرأى الجميع، أننا أمام معضلة حقاً، تدلنا بشكل أو بآخر أن الكثير من الباعة الذين نصادفهم هم طلبة جامعيون يبحثون عن رزقهم اليومي ليسدوا مصاريفهم المرهقة، وفي المقابل زيادة فاحشة بأسعار بيع أو مستلزمات أي سلعة يمكن الحديث عنها سواء أكانت بسيطة “كالذرة الصفراء” أو غيرها..