منذ سنوات والقنوات التلفزيونية العربية تقتبس برامج غربية لتصدرها بنسختها العربية وكلها للرقص والغناء، واكتشاف المواهب الفنية، وما إن يتم الإعلان عن واحد من هذه البرامج حتى يندفع الشباب العربي من جميع البلدان للتقدم بهدف المشاركة، وحلم الفوز يدغدغ المشاعر، والآمال ترسم مساراً عريضاً نحو الشهرة والمال والعيش الرغيد، وما الوصول إلى كل هذا إلا صبر ساعة.
لقد استطاعت هذه البرامج من حيث لا تدري، ربما أن تسلط الضوء على أحلام الفتى العربي كما الفتاة أيضاً، هذا الحلم الذي يتشكل نتيجة عوامل اجتماعية وثقافية، وله قوة جذب كبيرة بين الشباب تؤكدها طوابير الانتظار، والقوائم الطويلة للأسماء المشاركة في تلك البرامج باعتبار الترفيه عموماً هو من أكثر المجالات شعبية وجاذبية.
أما الإعلام فقد لعب دوراً أساسياً في الترويج لأحلامٍ يختصرها الفن بالرقص والغناء والقليل من التمثيل، عندما قام بتسليط الأضواء على حياة المشاهير الذين نالوا مجد الشهرة والثروة بآنٍ معاً، كما قام بتسويق الصورة المثلى للنجاح، والاستمتاع بحياة الرفاهية من خلال هؤلاء المشاهير، وبذلك تكون صورة الحلم قد اكتملت، لتبدأ خطوات البحث عنه عبر ما تتيحه هذه البرامج من فرص.
ولتأتي بعد ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، فتؤكد ما يقوم به الإعلام، وعندئذ تضيق نافذة الأحلام، لتقتصر على مجالات الترفيه هذه من دون النظر إلى ما يقابلها من آفاق أرحب، يفتح أبوابها العلم والاكتشاف والابتكار، وبما يحقق تلك المكانة المرموقة في المجتمعات كافة التي يبحث عنها الجميع، وما بإمكانه أن يأتي أيضاً بالثروة، والشهرة الواسعة التي يمكن معها أن يصبح المرء قدوة للأجيال القادمة، ولاسيما عندما يساهم في بناء مجتمع أكثر تقدماً، وازدهاراً.
وعندما تقتصر أحلام الشباب العربي على الشهرة وكسب المال، فإنهم يكونون قد تجاهلوا القيمة العميقة للعلم والبحث العلمي، وأثرهما في تطوير المجتمع، وحل المشكلات العالقة.. وهنا نتساءل عن السبب الذي جعل من الحلم الكبير يرتسم على هذا النحو الذي يسير في مسار الترفيه والتسلية والأمل بالربح السريع، علماً أن النجاح في صناعة الترفيه يتطلب ليس فقط الموهبة، بل المهارة في استخدامها أيضاً، والعمل الجاد والصبر عليه.
وليس بالضرورة بالتالي أن كل أحد يستطيع أن يحقق حلم الشهرة والمال، وهما في حقيقة الأمر نتيجة وليس هدفاً. وقد لا يدرك مَنْ يسعى وراء هذا، وهو يظنها أقصر السبل لتحقيق الآمال، أن مغامرة العلم والبحث ليست خياراً أقل جاذبية، ولا أقل نجاحاً وإبهاراً، وتأثيراً في الآخرين من مجالات الفن.
إلا أن مما يبهج النفس أن تنطلق أخيراً النسخة العربية من برنامج هو الأول من نوعه في عالم المال والأعمال يهدف إلى اكتشاف المبدعين، وأصحاب براءات الاختراع وتشجيعهم، وتوفير فرص النجاح لهم من جهات وشركات محلية وعالمية.. واللافت في الأمر أن أعداداً ليست بالقليلة من الشباب بادروا بالانضمام إلى هذا المجال الإبداعي، ما يبشر بدوره بأن كفتي الميزان ستأخذان بالتوازن، إذا ما التفتت دعاية الإعلام إلى التركيز على العلوم، بما يوازي على الأقل دعايتها للفنون، ومن دون توجيه الاهتمام إلى مجال دون آخر.
ولابد أن نقر بأهمية مثل هذه البرامج في عالمنا العربي، ونحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحالي، وفي ظلال التحديات التي تواجهها المنطقة، بينما العالم من حولنا يغذ في مسيرته العلمية لتفعل فعلها في تحويل اهتمامات الشباب العربي وطموحاته..
هذا ومن دون انتقاص من أهمية الفن، ودوره الثقافي والحضاري في حياة الشعوب.. إلى جانب احترام اختيارات الأفراد وميولهم، وقدراتهم الشخصية، والشغف حيالها، سواء اختاروا المجال الفني أم العلمي..
إلا أن مرحلة التحول التي تمر بها مجتمعاتنا مع تطور علوم الرقمية، والتكنولوجيا تجعلنا أكثر التفاتاً نحو التنافس العلمي بما له من مردود إيجابي في التنمية والتقدم وخلق فرص عمل جديدة.
ويظل العلم هو الأساس في الابتكار والاكتشاف سواء في مجالاته بدءاً من الطب والهندسة، وصولاً إلى التكنولوجيا والفضاء والبيئة، أو حتى في مجالات الفن، فلا موسيقا من دون علم الموجات الصوتية، ولا غناء من دون علم المقامات الموسيقية، ولا رقص من دون معرفة أصول الخطوة.. ولا ثروة تهبط من السماء بل أساليب، وإدارة علمية تحققها.