في حياة المرء، أي مرء، حكايتان؛ حكاية يعيشها ويتمثل تفاصيلها، ويواجه تحدياتها، وحكاية افتراضية يتخيلها ويتمناها فيغمض عينيه محاولاً الإطباق عليها والإمساك بتفاصيل يرسمها لشخصية محددة يرى فيها الخلاص المفقود، ويسعى للوصول إليها عبر مسارات وسلوك وجهود مضنية دون الوصول إلى الغاية المنشودة، وكلما حدثت متغيرات في حكايته المعاشة تتغير الصورة عن الحكاية المشتهاة أو المتخيلة.
وبالقدر الذي يحقق المرء نجاحات، أو ما يعتقده كذلك، تتغير معها الحكاية الأخرى، وهذا لا يختلف فيه أمير أو راعي غنم في البراري البعيدة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الأمير لتوسيع حدود سلطاته دون جدوى، وفي الوقت الذي يمضي فيه أمره على كل رعاياه، فإنه يتعطل في داخل دائرته الضيقة، في البيت والمكتب، وبالمقابل يسعى الراعي لزيادة أعداد أغنامه، وتحقيق الأرباح منها، وإبعاد الذئاب عنها، لكنه يغمض عينيه حالماً بحياة أخرى تكفيه متاعب رعاية أغنامه وحمايتها ما بين الصيف والشتاء دون أن يجد مخرجاً من حياته المتعبة مهما حاول إدخال المتعة إلى تفاصيلها.
في التجمعات المعزولة والضيقة يختلف الأفراد لأتفه الأسباب وأصغر التصرفات، ويتعالى صراخهم ويتبادلون التهديدات والوعيد دون الدخول في عراك مباشر، فكل منهم ينتظر تدخل أطراف بعيدة تسعى للتهدئة والصلح بالكلام اللين وجبران الخواطر، فيسارعون إلى تقدير واحترام وتكريم الساعي إلى الصلح، وكأنهم ينتظرونه وينتظرون حركة صغيرة منه،. ذلك أنهم في جوهرهم أنقياء طيبون لا يريدون الخلافات، لكنهم لا يشعرون بقيمتهم وأهميتهم، ولا يشعرون بمكانتهم إلا في الخصام والمواجهة بداية بانتظار التدخلات الطيبة ليظهروا أنهم أصحاب طيب كبير، يغضبون في الخلافات، وعندما يسترضون فإنهم يسارعون في الرضا والمصالحة، علهم يلجون إلى حياتهم الثانية التي يحملونها أحلاماً وخيالات وتطلعات لا تقف عند حد، ولا يحكمها معادل منطقي مقبول، ليبقى الصراع ما بين الحكايتين حاضراً دوماً، يأخذ شكلاً هادئاً حيناً، فيما يأخذ أشكالاً حادة أحياناً كثيرة.
ويبقى الحد الفاصل والحاكم بين الحكايتين عاملاً حاسماً في صيرورة عيش المرء، فإن سادت الحكاية الأولى بحكمة وموضوعية صلحت حياة صاحبها، وإن حصل العكس وطغت الحكاية الثانية على مسار وسلوك الشخص، فتبدلت حاله وساء ممشاه وتعقدت علاقاته من خلال الصورة التي يقدمها لمحيطه ومعارفه، فقد يصبح شخصية نرجسية أو عدوانية أو خرافية تتحدث عن روايات وقصص أشبه بالأساطير والخوارق، فينبذ من أقرانه، ويحيى حياة العداوة والكراهية، ويبتعد عنه الناس ويلفظونه خارج إطارهم، فيعيش الوحدة القاتلة فيما ترتفع عنده حدة العداوة والشك بما ينذر بنهايات كارثية. لتبقى الروايتان وأبطالهما في صراع لا يتوقف ما دام قلب المرء ينبض بالحياة.