الثورة – ديب علي حسن:
ما إن يذكر الشاعر أبو القاسم الشابي حتى تكون قصيدته المشهورة أمام أعيننا.. إذا الشعب يوما أراد الحياة.
صحيح أن الشاعر عاش كما الورد عمراً قصيراً وترك عطره إبداعاً، ولكنه موشى بالألم والمعاناة.
يعد الشابي من رواد التجديد في الشعر العربي بكل نواحيه، وهو رائد من رواد الرومانسية الحزينة التي ما زالت آثارها حتى الآن.
ولد أبو القاسم الشابي في شهر شباط عام 1909م في مدينة توزر بتونس.
قضى الشيخ محمد الشابي حياته الوظيفية في القضاء بمختلف المدن التونسية، حيث تمتع بجمالها الطبيعي الخلاب، ففي سنة 1910م عُيّن قاضياً في سليانة ثم في قفصة في العام التالي ثم في قابس 1914م، ثم في جبال تالة 1917م ثم في مجاز الباب، 1918م ثم في رأس الجبل 1924م ثم إنه نقل إلى بلدة زغوان 1345 هـ 1927م، ومن الأرجح أن يكون الشيخ محمد نقل أسرته معه وفيها ابنه البكر أبو القاسم وهو يتنقل بين هذه البلدان.
يبدو بوضوح أن الشابي كان يعلم على أثر تخرجه في جامع الزيتونة أعرق الجامعات العربية أو قبلها بقليل أن قلبه مريض ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة إلا في عام 1929.
كان الشابي مصاباً بالقلب منذ نشأته، ويشكو انتفاخاً وتفتحاً في قلبه، ولكن حالته ازدادت سوءاً فيما بعد بعوامل متعددة منها التطور الطبيعي للمرض بعامل الزمن، والشابي كان في الأصل ضعيف البنية ومنها أحوال الحياة التي تقلّب فيها طفلاً ومنها الأحوال السيئة التي كانت تحيط بالطلاب عامة في مدارس السكنى التابعة للزيتونة، ومنها الصدمة التي تلقاها بموت محبوبته الصغيرة، ومنها فوق ذلك إهماله لنصيحة الأطباء في الاعتدال في حياته البدنية والفكرية، ومنها أيضاً زواجه فيما بعد.
لم يأتمر الشابي بنصيحة الأطباء إلا بترك الجري والقفز وتسلق الجبال والسياحة، ولعل الألم النفساني الذي كان يدخل عليه من الإضراب عن ذلك كان أشد عليه مما لو مارس بعض أنواع الرياضة باعتدال.
يقول بإحدى يومياته الخميس 16-1-1930 وقد مر ببعض الضواحي: “ها هنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنّى لي ذلك والطبيب يحذر علي ذلك لأن بقلبي ضعفاً! آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية”.
وفي شهادة للناقد المصري فاروق يوسف عنه يقول: (ربما لا يوجد شاعر أو أديب أو كاتب تونسي أكثر شهرة من أبو القاسم الشابي، ولم يخل كتاب مدرسي تونسي من قصيد أو بيت للشابي.. شاعر تونس الأول، كما يقال عنه دائماً، قرين لمفارقات كثيرة، هو الشاعر الذي عاش حياة ضنكة واشتهر بعد وفاته شاباً، وهو أيضاً الذي عاش عمراً قصيراً (ولد عام 1909 وتوفي عام 1934) ولم يتح له أن يكتب ديواناً آخر غير أغاني الحياة الذي فتح له (بعد وفاته) أبواب الشهرة العربية على مصراعيها، وهو كذلك الشاعر الذي استوردت شهرته من مجلة أبولو المصرية التي نشر في صفحاتها قصائده قبل أن تودعَ في ديوانه.
الشابي الذي كتب للحب والحياة والحرية والإنسان، كان يستلهمُ قيمه من بيئته الواحية الجنوبية (في منطقة توزر جنوب تونس) التي ولد بين ظهرانيها، وكان يستمد مضامين قصائده من واقع الاستعمار الفرنسي لبلاده، وكان يحرض على الثورة وعلى الحياة، تحول بعد وفاته إلى رمز لكل تلك المضامين.
كانت للشابي قدرة عجيبة على تحويل كآبته الخاصة ومواقفه الحادة من محيطه وزمنه وبيئاته (هنا إشارة إلى تغير بيئات الشابي من مولده في توزر إلى العاصمة، حيث درس وأقام فقيراً) إلى طاقة محفزة على البذل والثورة والانتفاض ضد الركود: الركود الأدبي الذي جعله في مقام آخر يكتب “الخيال الشعري عند العرب”، والركود السياسي والفكري الذي أشار إليه في قصائده، والركود الاجتماعي وكان حاضراً أيضاً في نقده للكسل المجتمعي على التطور والتطوير.
هذا إضافة إلى مذكراته التي صدرت في كتيب بعنوان «مذكرات الشابي» وقدمت جانباً قصيراً من حياته الشخصية.. كتاب أغاني الحياة، الذي صدر لأول مرة عام 1955، بعد أكثر من عقدين من وفاته، من الكتب التي ستظل تمدّ القارئ برؤى مفيدة راهناً ومستقبلاً، وهو ديوان شعري يحتوي على الكثير من القصائد التي ما زالت تستدعى اليوم في كل منعرج سياسي أو فكري يحتاج إلى برهنة بأبيات من الشابي.. بيت “إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر”، كان درساً في الحرية، وهو بيت يصلح في كل الأزمان وكل الفضاءات والميادين، العربية أساساً وحتى غير العربية، لذلك فإن ديوان “أغاني الحياة” وفر بقيمه ومضامينه ما يقيم الدليل على أنه من الكتب التي لا تموت، وأثبتت دروس الواقع والسياسة والأحوال العربية ذلك في اختبارات كثيرة.)
من قصائده..
إنِّي أرى فأرى جموعاً جمَّةً
لكنَّها تحيا بِلا ألْبابِ
يَدْوي حوالَيْها الزَّمنُ كأنَّما
يدوي حوالَي جندلٍ وترابِ
وإذا استجابوا للزَّمانِ تَناكروا
وتَراشَقوا بالشَّوكِ والأحْصابِ
وقضوا على روحِ الأخُوَّةِ بينهمْ
جَهْلاً وعاشوا عيشةَ الأغرابِ
فرِحتْ بهم غولُ التّعاسةِ والفَنا
ومَطامِعُ السّلاَّبِ والغَلاَّبِ
لُعَبٌ تُحرِّكُها المَطامعُ واللّهى
وصَغائرُ الأحقادِ والآرابِ
وأرى نفوساً من دُخانٍ جامدٍ
مَيْتٍ كأشباح وراءَ ضَبابِ
مَوْتى نَسُوا شَوْقَ الحياةِ وعزمها
وتحرّكوا كَتَحرُّكِ الأنْصابِ
وخبا بهمْ لَهَبُ الوجودِ فما بقوا
إلاَّ كمحترقٍ من الأخْشابِ
لا قلبَ يقتحمُ الحياةَ ولا حِجًى
يَسْمو سُمُوَّ الطَّائرِ الجوّابِ
بل في التُّرابِ المَيْتِ في حَزْن الثَّرى
تنمو مَشاعِرُهُمْ مع الأعشابِ
وتموت خامِلَةً كزهرٍ بائسٍ
ينمو ويذبُل في ظلامِ الغابِ
أبداً تُحدِّقُ في التُّرابِ ولا ترى
نورَ السَّماءِ فروحُها كتُرابِ
الشَّاعرُ الموهوبُ يَهْرِقُ فنَّه
هدراً على الأقدامِ والأعْتابِ
ويعيشُ في كونٍ عقيمٍ ميِّتٍ
قَدْ شيَّدتْهُ غباوةُ الأحقابِ
والعالِمُ النَّحريرُ يُنْفِقُ عُمْرَه
في فَهْمِ ألفاظٍ ودَرسِ كِتابِ
يحيا على رِمَمِ القَديمِ المجتَوى
كالدُّود في حِمَمِ الرَّمادِ الخابي
والشَّعبُ بينهما قطيعٌ ضائعٌ
دنياهُ دنيا مأكلٍ وشَرابِ
الويلُ للحسَّاس في دنياهُمُ
ماذا يلاقي من أسًى وعَذابِ
لو كانت الأيام..
لو كانتِ الأَيَّامُ في قبضتي
أَذَرْتُها للرِّيحِ مِثْلَ الرمالْ
وقلتُ يا ريحُ بها فاذهبي
وبدِّديها في سَحيقِ الجبالْ
بل في فَجاجِ الموتِ في عالَمٍ
لا يرقُصُ النُّورُ بِهِ والظِّلالْ
لو كانَ هذا الكونُ في قبضتي
أَلقيْتُهُ في النَّارِ نارِ الجحيمْ
مَا هذه الدُّنيا وهذا الوَرَى
وذلكَ الأُفْقُ وتِلْكَ النُّجُومْ
النَّارُ أَوْلى بعبيدِ الأَسى
ومسرحِ الموتِ وعشِّ الهمومْ
يا أَيُّها الماضي الَّذي قَدْ قَضَى
وضمَّهُ الموتُ وليلُ الأَبَدْ
يا حاضِرَ النَّاس الَّذي لم يَزُلْ
يا أَيُّها الآتي الَّذي لم يَلِدْ
سَخَافةٌ دُنياكُمُ هذه
تائهةٌ في ظلمةٍ لا تُحَدْ