الملحق الثقافي- د. ياسر صَيرفي:
لاشكّ في أنّنا عندما نتحدّث عن النقد والإبداع والعلاقة بينهما نكون كمَن يقفُ أمامَ بحرٍّ لُجّيٍّ ويريدُ أن يستنبطَ ما فيه من مكنوناتٍ؛ لأنّ تلك القضيةَ أكبرُ من أن تؤطَّرَ بإطارِ المقالةِ أو الكتابِ، لكنّنا سنحاول بجهدِ مَن يحبو إلى خدمةِ العلم أن نقفَ عندَ القشورِ التي توحي إلى البواطنِ، فالنقد له أهله ومعلّموه، ولا يمكن أن نأخذ سيف الفارس ونحن ما زلنا أغراراً في القتال، فهو مسالةٌ معقّدةٌ متشعّبةٌ في مدارسِها واتّجاهاتِها، والإبداعُ إطلاقٌ لعنانِ الرّوحِ كي تنطلقَ دونَما نظرٍ إلى قيودٍ أو دونَ انتظارٍ لتقييمٍ أو انتقادٍ، وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ الإبداعَ سابقٌ للنّقدِ، فقد نتجَ كثيرٌ من النصوصِ الإبداعيّةِ قبلَ أن ينطلقَ الناقدون، وقد بدأَ النقدُ على شكلِ انطباعاتٍ أو مثاليّاتٍ تتعلّقُ بالمُثُل والعاداتِ إلى أن صارتْ له أسسُه وقوانينُه ومدارسُه، فباتَ الناقدُ القارئُ المتخصّصُ أقوى بكثيرٍ من الناقدِ الذي يعتمدُ على ميوله، فأتى النقدُ على شكلِ إطارٍ أضفى على الصورةِ الإبداعيةِ جمالاً وكمالاً، فكأنّ «المبدع والناقد روحٌ وجسدٌ» فالعلاقةُ بينَ المبدعِ والنّاقدِ علاقةٌ تكامليّةٌ ودّيّةٌ علميّةٌ لاسيّما إذا كانتْ منطلقةً من دقّةٍ وحساسيّةٍ عاليةٍ ونكرانٍ للذّات في سبيلِ الوصولِ إلى المُبتغَى الأسمى والذي أوكلنا اللهُ به ألا وهو خدمةُ العلمِ والإبداعِ العلميّ والرقيّ بالإنتاجِ الإنسانيِّ الذي يرتقي بدورِه بالإنسانِ الذي هو خليفةُ اللهِ على الأرضِ، فالنقدُ ضرورةٌ تقوّي الإبداعَ وتقوّمه وتدفعُه قدُماً للولوجِ أكثرَ فأكثرَ في مضمارِ الجمالِ والاتّساقِ بعيداً عن السفاسفِ والترهّلِ الذي نشهده اليوم في كثيرٍ من الكتابات التي باتتْ المحاباةُ عنواناً لنقدِها، فالمبدعُ أصلٌ والناقدُ ترسيخٌ لذلك الأصلِ، وأيّ عملٍ إنسانيٍّ أدبيٍّ أم غيرِه لابدّ له من تقويمٍ وتقييمٍ بنّاءَين بعيداً عن النظرةِ القاصرةِ التي تنظرُ إلى النقدِ على أنّه فقط إظهارٌ للمثالب، وذلك كلّه في سبيل الهدف الأسمى وهو إظهار العلمِ بصورتِهِ المُشرقةِ وخدمةِ البشريّةِ جمعاء.
العدد 1178 – 13 -2 -2024