الثورة _ هفاف ميهوب:
لم يعد إنسان عصر الحداثة، هو ذاك الذي دلّ فيلسوف عصر الأنوار “ديكارت” على وجوده بقوله: “أنا أفكّر إذن أنا موجود”.. لم يعد كذلك، بعد أن ارتبط وجوده بالاستهلاك الذي دفع الكاتبة والباحثة الاسترالية ـ الإيطالية “روزي بريدوتي”ً لقولبة مصطلح “الكوجيتو” لأبي الفلاسفة هذا، معتبرة بأن وجود الإنسان، بات يفرض بأن يكون تعريفه لنفسه: “أنا أتسوّق إذن أنا موجود”،
هذا ما بات عليه حال الإنسان، بعد أن تدفّقت نظريات الحداثة وما بعدها، يرافقها الاستعمار وتوحّش الرأسمالية، ومن ثمّ المعوقات التي أصابت عمق هذا الإنسان، بل ورؤاه وروابطه ونماذجه، وكذلك أخلاقه وقيمه، وغير ذلك مما تناولته “بريدوتي” في كتابٍ بدأته بقولها:”مفهوم الإنسان قد انفجر، تحت ضغطٍ مزدوج من التقدم العلمي والمخاوف الاقتصادية العالمية. يبدو أننا دخلنا مأزق ما بعد الإنسان”، إنه الكتاب الذي تطرّقت فيه إلى نظريات الحركة الإنسانية، وتداعيات إزاحة الإنسان من مركز الكون، خاصة على الحياة الأخلاقية.. أيضاً، التطوّر التكنولوجي الذي لم يهيمن على عمل الإنسان والأرض والطبيعة التي يعيش فيها فحسب، بل وعلى حياته وعلاقاته وتفكيره ووجوده، وقيمه التي انقلب عليها، ولا سيما في الغرب، أما عن سبب هذا الانقلاب، فوجدته “برودوتي” يعود إلى تضخّم عقدة الأنا لدى الغربي، وهو أمرٌ فاقم من أزماته وأنانيّته، وأدّى إلى طغيان الآلة، التي حوّلت كلّ مافي الحياة، حتى الفكر والثقافة، إلى سلعٍ يتمّ تداولها بشكلٍ استهلاكي. نعم، طغيان الآلة وهيمنتها، هو ما أدّى برأيها إلى كلّ ذلك..
إلى موت الإنسان الذي قتلت هذه الآلة، ملكاته وخبراته وجهوده ووجوده، وكلّ مالم يعد بإمكانه تعلّمه، حتى في المدارس والجامعات التي تاهت عن دورها التعليمي والمعرفي، بعد أن داهمها العصر الرقمي،”شبكة الكون ككلّ، قد نسمّيها الموت، ولكن في أنطولوجيا أحادية للمادية الحيوية، يتعلّق الآمر بالمجموع الكلّي، للحظة التي نتزامن فيها بشكلٍ كاملٍ مع أجسادنا، لنصبح في النهاية، جثّة افتراضية”..
حتماً هي مشكلة، بل هي أزمة حقيقية ومدمّرة. فلا القيم قيم ولا الإنسانية إنسانية، ولا حتى العلوم علوم، والإنسان لم يعدّ معرّفاً بقيمته، بل بكمّية تسويقه لكلّ ما يعيشه ويحيط به، وإلى أن باتت أمنيته:”نطمح إلي مثالٍ، يجعلنا لا نأخذ معنا إلا ذكرياتنا، ولا نترك وراءنا إلا خطواتنا.. أكثر ما نرغب به حقاً، هو تسليم النفس، ويفضّل أن يكون ذلك في معاناة النشوة، ومن ثم اختيار طريقتنا في الاختفاء، وطريقتنا في الموت لأنفسنا وكأنفسنا”..
كلّ ذلك، رأته “بريدوتي” يحتاج إلى حلولٍ سريعة، أولها إعادة بناء الإنسان ووجوده، وتصالحه مع بيئته وطبيعته وعلومه وأخلاقه وإنسانيّته..نسأل هنا: يا ترى، هل سيكون هناك من يسمع دعوتها هذه، ويعمل على تبنّيها؟!..
لا أعتقد، فهي ليست الباحثة والفيلسوفة والكاتبة الوحيدة التي أشارت إلى الخطر الذي يهدد عالم “ما بعد الإنسان”..
خطر الحداثة المتغوّلة في امتداد سيطرتها، والتي كان الكاتب والفيلسوف البرتغالي “إميل سيوران” قد قال مخاطباً كلّ من يحذّر الإنسان من خطورتها وهيمنتها:”نهزّ الناس، نوقظهم من النوم، مع علمنا بأننا نقترف بذلك جريمة، وأن من الأفضل ألف مرّة، أن نتركهم يستمرّون في النوم، لأننا لا نملك ما نقترحه عليهم حين يستيقظون..”..