يبدو أنّ الفساد المستشري الناجم عن طريقة عمل آليات الدعم المتبعة قد ضاقت به مؤسساتنا ذرعاً، حتى إنها باتت – بقصدٍ أو تحت ضغط الأمر الواقع غير المُحتمل – من أكثر المُصرحين بهذا الأمر، ويبدو أن الحكومة اتخذت قراراً – أوّليّاً – بتغيير نمط الدعم بما يضمن وصوله إلى مستحقيه فعلاً بالتوازي مع تكوين هيكلية وتفعيل شبكات الحماية الاجتماعية.
القرار سليم بكل تأكيد من حيث المبدأ لقطع الطريق أمام الفساد الحاصل والنزيف المالي المرعب الذي يُحدثه، ولكن ما نخشاه وتخشاه الحكومة أكثر منّا هو اتخاذ قرار غير دقيقٍ بهذا الشأن، وهذا ما أوضحه وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في جلسة حوار أريحيّ صريحٍ وشفاف معنا كمجموعة من الزملاء الاعلاميين، وفهمنا أن الحكومة تبحث عن الصيغة المُثلى لإقرار ذلك التغيير، ولكنها حريصة إلى حدود الحذر بألا تتخذ قراراً يُندم عليه لاحقاً عند التطبيق، ولاسيما في مثل هذه المسألة الحساسة جداً، ولذلك قررت فتح حوار ابتدأ معنا كإعلاميين بحكم عملنا الذي يُعتبر كنقطة ارتباط بين الناس والحكومة.
هذه لفتة إيجابية تُسجل لمصلحة الحكومة فعلاً – رغم ظلمها للإعلاميين حتى الآن – بأن تكون منفتحة لمثل هذا الحوار قبل اتخاذ أي قرار بشأنه أملاً بالوصول إلى أفضل النتائج.
كانت الأسئلة الأبرز في تلك الجلسة: هل استطاعت برامج الدعم الحكومية على مدى السنوات الماضية أن تحقق ما هو مطلوب وتحل الاشكالات ..؟ وهل يصل الدعم إلى الفئات المستهدفة ..؟ وما مفهوم الدعم بحد ذاته ..؟ ثم كيف يمكن إيصاله إلى مستحقيه ..؟
أسئلة في الحقيقة مُحفّزة للتأمل وللتفكير بعمق، وعندما نجد أنفسنا أمام طلب الإجابة عنها يبدو أن الوضع مختلف فهو يتطلب إعمال الضمير والوجدان بحسابات دقيقة أملاً بالوصول إلى إجابات عادلة تمكننا من الوصول إلى قرار سليم لا يُندم عليه فعلاً.
برامج الدعم الحكومية يمكننا القول إنها استطاعت أن تحقق ما هو مطلوب نسبياً، فبعض الفئات المستهدفة لا يصلها الدعم ببعض جوانبه، كالفقير الذي لا أحد له ويضطر لخدمة مدعومة (صحية أو كهربائية أو مائية) فإنه يذوق أشد المعاناة، وإن حظي بالخدمة فلا يحظى إلا بالحد الأدنى، وربما أقل من ذلك الحد، والأمر يختلف كثيراً إن كان هذا الفقير يعرف أحداً من الجهة الداعمة، أو إن كان المدعوم غنياً فإن الدعم يُغدق عليه، وهذا يتناقض مع مفهوم الدعم الذي هو – من المفترض – تقديم العون والمساعدة لمن لا يستطيع تأمين دخلٍ يتناسب مع الحد الأدنى الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية.
أما كيف يمكن إيصال الدعم إلى مستحقيه ..؟ فنرى أنّ علينا أولاً أن نحدد بدقة حجم الأموال المخصصة للدعم فعلياً من مختلف الجوانب، ثم يجري تفعيل شبكات الحماية الاجتماعية لتبدأ مع المكتب المركزي للإحصاء تحديد كل شخص لا يستطيع ضمان الحد الأدنى من متطلبات الحياة المعيشية، وليس لنا أن نمل من ذلك مهما أخذ هذا الاحصاء الشامل من الوقت الطويل، لأننا بلا أرقام دقيقة لن نستطيع اتخاذ أي قرار صائب.
بعد ذلك يُرفع الدعم السلعي عن كل شيء، ويتحول إلى دعم مالي حيث يتم ضخ الأموال المخصصة للدعم بشكل نسبي إلى حساب كل مواطن غير قادر بدخله الوصول إلى متطلبات الحياة، فالمواطن الذي لا عمل له ولا دخل يجب أن يكون مدعوماً بنسبة أكبر من ذلك القادر على تأمين دخلٍ ولو بسيط.
والأفضل في مثل هذه الحالة هو تفعيل قانون المنافسة ومنع الاحتكار بشكل جليّ وصارم لتزداد الخيارات أمام المواطنين، لأن هذا القانون (شبه المُعطّل) يجعل السوق ميداناً للمنافسة بعيداً عن أي استغلال واحتكار.