الملحق الثقافي- يوسف محمد سلمان:
لم يغادر وطنه، ويفارق أحبته وأصدقاءه حباً في المغادرة أو رغبة في المفارقة، وإنما قام بذلك بدعوة من أولاده في موسكو لينال بعضاً من الراحة بعد إنهاك وإجهاد ومعاناة من ضنك الحياة، فيمم الباحث والكاتب أيمن أحمد شعبان وجهه صوب موسكو في رحلة اعتبرها مسبقاً شاقة ومثقلة بالمتاعب والهموم، حتى ولو كانت محدودة المدى، بعيداً عن وطنه الذي أحبه وناضل من أجله ونافح في الدفاع عنه طوال أربعة عقود ونيف..
غادر جسماً، وبقي قلبه معلقاً في وطنه ومدينته وقريته وعائلته وأحبته وأصدقائه مُنْشَدَاً إليهم بذكريات صباه وشبابه ورجولته انشداد الشجرة إلى جذورها، تاركاً أطيب الأثر وأعمقه في قلوب الجميع، يواكب أحوالهم، كأنه حاضر بينهم، لم يغـب عنهم.
دعونا نتوقف عند آخر كتاب أصدره – حتى الآن- هذا الباحث والكاتب الوطني العريق، وقد أصدره في بداية هذا العام تحت عنوان (قامات، وقفات، ذكريات) وتحدث فيه عن قامات عربية وسورية من قامات العلم والمعرفة والثقافة والفكر والأدب، أبدعت فأثْرت فاستحقّت وقوف الأديب أيمن أحمد شعبان عند عطائها لتغدو تلك الوقفات توثيقاً لعطاء وتخليداً لذكرى، ولتصبح الذكريات آثاراً تتكلم في كتاب ثري بثراء هذه القامات، غنيّ بغنى ما قدّمت فكراً وأدباً وعلماً وفنّاً، ليزيدها ما أضفاه الأديب شعبان بما ملكه من سحر البيان وغزارة المعرفة وسلاسة الأسلوب أبعاداً مؤتلقةً بجمعه وتوثيقه لسلسلة مقالات كتبها بين عامي (2020-2022 ) ضمن كتاب من القطع المتوسط عدد صفحاته 300 صفحة يحتوي 115 مقالة تتناول الحديث عن سيرة وإنجازات 115 قامة من تلك القامات.. الذين قال عنهم الأديب شعبان في مقدمة كتابه: (هم يستحقون منا الإضاءة على إنجازاتهم وإبداعاتهم التي لم تتحقق بين ليلة وضحاها كما لم تأتِ صدفةً أو طمعاً أو مغالبةً واصطناعاً، وإنما هو التميز والعطاء كحصيلة جهود تكرست فكان لتلك الأسماء شأوها محتلةً منزلة سامية في عالم الفكر والأدب والفن والسياسة والدين…).
والأديب شعبان هو باحث ومفكر له رصيد كبير من الكتب السياسية والدراسات الفكرية والأدبية عبر مسيرته الغنية، ليكون هذا الكتاب إضافة جديدة في مسيرة الكاتب وللمكتبة العربية.. فإذا تنقّلتَ بين دفتي الكتاب تشعر وكأنك تتنقل في حديقة متنوعة الورود والطيوب كيف لا؛ وقد جاءت أغلب هذه المقالات توثيقاً لذكريات عاشها الكاتب مع أغلب هذه القامات، بعضهم أعلام في الفكر والأدب أو علماء أو معلمين أو رجال دين أو دولة.. ولعل هذا ما يميزالكتاب فهو يتحدث عن مبدعين في مختلف المجالات والميادين.. ففي مجال الأدب لاحظنا حواراته الغنية مع الكثير من أصحاب الإبداع الذين تحدثوا عن مسيرتهم الأدبية فيوجز في مقالاته أهم ما قدموا فكراً وأدباً..
وثمّة وفاءٌ لشخصيات عظيمة أبدعت لكنّها رحلت عن عالمنا، من أمثالهم شعراء كبار نعتز بهم، سنذكر على سبيل المثال الشاعر الكبير سليمان العيسى، حيث يتحدث الكاتب عن زيارته للأديب الكبير مطلع التسعينات من القرن الماضي ولقائه معه في مكتبه بوزارة التربية السورية، وترحيب الشاعر الكبير به وإعجابه بمؤلفاته آنذاك خصوصاً كتابه (المجاهد الشيخ صالح العلي قائد ثورة الساحل السوري ضد الانتداب 1920م) ليعبر الكاتب بالكثير من الفخر والاعتزاز عن سعادته بشهادة إعجاب وتقدير مكتوبة خطها الأديب الكبير الشاعر سليمان العيسى، وتم تثبيتها في مستهل ذاك الكتاب.
وأيضاً في معرض المقالات التي تحدثت عن مبدعين رحلوا كانت مقالته عن الشاعر الراحل الكبير حامد حسن، فيقدم الكاتب عرضاً غنيّاً عن مسيرة الشاعر الكبير، كما يقدم مقتطفات من شعره في الوطن والمرأة والإنسان وعن مؤلفاته البحثية حيث يقول الأديب شعبان (كان بإبداعه الفريد نظيراً لشعراء عصره الكبار أمثال بدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونديم محمد والجواهري).
هذا غيض من فيض المقالات التي تحدثت عن مبدعين رحلوا.. كما كان للأديب شعبان وقفة عند مبدعات قدّمن فكراً وأدباً ثريّاً، وكمثال سنذكر وقفته عند الشاعرة الراحلة فاطمة سليمان الأحمد (فتاة غسان) حيث يتحدث عن سيرتها وهي ابنة العلامة الجليل الراحل الشيخ سليمان الأحمد عالم الدين والبلاغة والأدب والشعر وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وهي في طليعة من عملوا بجرأة على نشر أفكار نيّرة، بعد أن تعهّدها والدها العلامة الشيخ بالرعاية والتعليم، غير مبالٍ بالرأي العام الذي كان معارضاً لتعليم المرأة في تلك الحقبة التي تعود لمطلع القرن العشرين، حيث نظمت هذه الشاعرة قصائد في الوطن والإنسان وبعضها نُشر في صحف ومجلات عصرها.
وهناك وقفة عند الأديبة الكبيرة كوليت خوري حيث تحدث الكاتب عبر مقاله عنها عن لقاء جمعه بها مؤخراً في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق وحديثهما عن ذكرياتهما وعن الوطن وتاريخه العريق.. ثم يتحدث عن سيرتها الغنية وعن عشرات الكتب والمؤلفات التي قدمتها في التاريخ والسياسة والشعر والرواية والقصة.
هذه بعض نماذج من وقفات الكاتب مع مبدعين كبار، فقد تنوعت مقالاته وبعضها تحدث عن رجال فكر وسياسة ودبلوماسيين ورجال دين ومعلمين وعن علماء مخترعين عرب وسوريين، لا يتسع المجال لذكر الأسماء كلّها، فهي ينابيع من الإبداع المتنوع في مجالات متنوعة لأصحابها الذين برعوا بما قدموه.. فكانت كل كلمة في هذا الكتاب، تنبض بالوفاء لعظيم عطائهم وهذا ما يضفي على هذا الكتاب قيمة فكرية إنسانيّة راقية، تجعله كتاباً مهماً في مكتبتنا العربية.. فليس هناك ما هو أعظم وأرقى من الوفاء في سفر الإنسانية الخالد.
العدد 1181 – 12 -3 -2024