الثورة- هفاف ميهوب:
في كتابه “الأفكار هي الأشياء” يرى الفيلسوف والكاتب الأميركي الساخر “برنتيس مالفورد” أن الإنسان المحظوظ في الحياة، هو من يحبّ كلّ ما في الطبيعة، ولاسيما الأشجار البريّة التي وجدها تحتوي على القوّة والفكر، بل وأقرب إلى الروح من كلّ الأشياء التي أخضعها الإنسان وشوّه طبيعتها.
يرى أيضاً، أن هذا المحظوظ لا بدّ أن يشعر بالابتهاج والغبطة خلال تواجده في الطبيعة، بل وأن الأشجار والطيور والحيوانات وجميع الأشياء التي فيها وتحيط به، قد تكوّنت من عقلٍ وروح وإحساسٍ، يجعلها تبادله الحبّ بحبٍّ وصفه:
“هذا الحبّ هو عنصر حقيقي كالهواء والماء، وقوّة نافذة وفعّالة، تتحرّك في هذا العالم الكبير الذي يحيط بنا، ويعجز فيه الحسّ الجسدي عن الإدراك، بشكلِ موجاتٍ وتيّارات، كتلك التي تتلاطم في المحيط”..
لا شكّ أنه الإحساس الذي يجعلها تتلمّس عاطفة الإنسان فتستجيب لها، وحتماً ليس بطريقة استجابته، وإنما بطريقة الروح اللامتناهية التي تفوق ملاحظتنا، وتجعل من الصعب علينا معرفة سرّها وحقيقتها.
يؤكد “مالفورد” ذلك، مواجهاً كلّ من يسخر من فكرة أن الشجرة لديها عقل يفكّر:
“الشجرة في داخلها نظام، وأجهزة حيوية كما في داخلك. يجري في أنسجتها وخلاياها، النّسق “العُصارة” بدلاً من الدماء، ويكسوها اللحاء بدلاً من الجلد، وتستنشق الهواء اللازم للحياة من أوراقها، بدلاً من رئتيها، ومن الضروري أن تتغذّى، وتستمدّ الغذاء من التربة والهواء والشّمس، وتتكيّف مع الظروف البيئية التي قد تناسبها، أو تعصف بها..”.
تذكّرني كلّ هذه الأفكار بكتابٍ كنت قد قرأته ودفعتني معلوماته، للمقارنة بين أيادي الحقد والبشاعة التي أحرقت غاباتنا، وأيادي الحبّ التي احتضنتها وأحالت صمغ أشجارها، بل دموعها، إلى كلماتٍ أشعرتني بأننا نفقد، ومع كلّ شجرةٍ نخسرها، جزءاً كبيراً منّا..
تذكّرني بـ “الحياة السرّية للأشجار”. كتاب الألماني “بيتر فوليبن” دارس علم الغابات، والذي يقول عن اللغة التي اضطرّ لاستخدامها فيه، بعد أن عايش الطبيعة، وعانق أشجارها وأفكارها ومشاعرها، وكلّ ما أشعره بأنها اللغة الأجمل في الحياة:
“تعمّدت استخدام لغةٍ إنسانيّة بحتة، فاللغة العلميّة تنحّي كلّ المشاعر جانباً، ولن يفهمها الناس، فعندما أقول: “الأشجار تُرضع أبناءها”، فأنا متأكّدٌ من أن الجميع يفهم ما أقصده فوراً..”..
نعم، لقد ذكّرتني أفكار “مالفورد” بأفكار “فوليبن”.. فكلاهما حارسٌ للطبيعة وأشجارها وأفكارها ومفرداتها، وكلاهما يشعر بالغبطة والابتهاج والحب، تجاه البريّة والغابة والأشجار التي تتعانق وترتبط، إلى حدٍّ يراها فيه من يدرس علومها:
“الأشجار ترتبط وتتعانق بطريقةٍ، تجعل إحداهما تموت إن ماتت الأخرى.. هي تتصرّف بشكلٍ جماعيّ، وتتشارك الموارد التي تعزّز بقاءها… “.