هفاف ميهوب
عندما نجد كاتباً أو أديباً، يكتبُ بلغةٍ غير لغته الأم، لابدّ أن نتساءل عن السبب، بل الأسباب التي قد تكون، بحكمِ الضرورة التي كانت مبرّراً لدى الأديب البولندي الأصل “جوزيف كونراد” الذي أبدع في الكتابةِ بغير لغته الأصلية. قد يكون السبب أيضاً، الطموح الذي مثلما دفع الروائي الروسي “فلاديمير نابوكوف” للسفر إلى أميركا، وكتابة رائعته “لوليتا” بالانكليزية، دفع الكاتبة الهنغارية “أغوتا كريستوف” للسفر إلى سويسرا، والكتابة بالفرنسية التي كرهتها، لشعورها بأنها تمحو لغتها الأساسية. حتماً هناك أسباب أخرى، كشعور الكاتبِ بالاغتراب الذي جعل الشاعر والروائي والمسرحي الإيرلندي “صموئيل بيكيت” يختار الكتابة بموسيقى اللغة الفرنسية، ليكون الدافع الذي يختلف عن كلّ ما ذكرناه، ذاك الذي قال الشاعر والكاتب الروسي ـ الأميركي “جوزيف برودسكي” عنه:”هدفي الوحيد، أن أجد نفسي أقرب إلى الرجل الذي أعتبره أعظم عقل في القرن العشرين: الشاعر البريطاني “ويستن هيو أودن”..كلّ هذه الأسباب، دفعت الكاتب والشاعر الأرجنتيني المقيم في إيطاليا “أدريان براڤي” لتفنيدها أكثر وأكثر، في كتابه “غيرة اللغات”.. الغيرة التي لم يمنعه ما حملته من شهرةٍ لكُثر من مبدعي العالم، ومنهم من ذكرناهم، من الشعور بأن تغيير الكاتب للغته يجعله: “أشبه برَقٍّ قديم مُحيت كتابته الأصلية، وكُتبت فوقه كتابة أخرى”.إنه ما شعر به، بعد هجرته وسماعه الدائم لصوت طفولته.. صوت لغته الأم التي أطلق صوته من داخلها: “من داخل اللغة، تتأسّس هوية المرء وذاكرته..”.كلّ ذلك، تناوله “براڤي” في كتابٍ كان هدفه منه، مواجهة نفسه في ضوء الحفاوة التي قدّمتها اللغة التي اضطرّ للكتابة بها، ومقارنة نفسه ببعض الكتّاب الذين غيّروا لغتهم، أو كانت لهم تأملات حول هذا التغيير.يحاول استرجاع صور اللغة، عبر الخوض في التحوّل الذي وجده يستدعي “شبح المسافة الباطنية التي تتمكّن أحياناً، من صدع قصّة المرءِ بأكملها، حيث اختار أن يحيا ويتنفّس”.هذا ما خاض به، خلال وجوده في إيطاليا، التي وإن اضطرّ للكتابة والتحدّث بلغتها، إلا أنه بقي منجذباً إلى خلفيات ونغماتِ لغته، وإلى صوت أمومتها:”أمومة اللغة هي الأصل الذي لايمكن إلغاؤه، فهي لا تعطينا الكلام فحسب، بل النظرة والشعور والتصوّر حيال الأشياء.. إنها طريقة وجود وحياة وتفكير.. فنّ تأويلنا للعالم، ونحن في النهاية، نتكلّم لغتنا الأم بلغاتٍ أخرى كثيرة”.باختصار: يريد “براڤي” الذي بقي بعد سنواتٍ من هجرته إلى إيطاليا، لا يقرأ ولا يكتب إلا بلغته الأم.. يريد أن يقول لكلّ من يسأل عن شعور الكاتب الذي يكتب بلغةٍ غير لغته الأصلية، بأن ما شعر به، ومُذ أوّل كتاباته بالإيطالية:”اعتراني وأنا أكتبُ باللغة الجديدة، شعورٌ بأنني فقدتُ كلّ اليقين الذي كان لديّ، لقد تركت الجسد الذي كان يحتويني، لأرتدي شبحاً راح يتملّص منّي من كلّ الجهات.. تلك كانت لغتنا، ونحن كنّا في داخلها. أما الآن، وقد بدأنا نستخدم لغة أخرى، علينا الدخول على رؤوسِ أصابعنا، كما لو أننا لا نرغبُ بإثارة الكثير من الضجيج..”..بيد أنه كان على حقّ، عندما رأى بأن “غيرة اللغات” هي ما يدفع كلّ لغةٍ للشعور بالتفوق على اللغات الأخرى، بل وللسعي إلى قتلِ كلّ لغةٍ تحاول التفوق عليها، أو خطف أبناء قلبها. هذا رأيه ورأينا: نعتزّ ونباهي بتفوق وتميّز لغتنا.. اللغة العربية التي على كلّ ابنٍ من أبنائها، وكلّ كاتبٍ اضطرّ ولأسبابٍ عديدة للكتابة بلغةٍ تغار من أصالة أمومتها.. على هؤلاء جميعاً أن يدركوا بأن اللغة الأم هي أيضاً:”لغة تكتشفنا، تُعرينا أمام الآخر، إنها الانتماء الوحيد الذي لانستطيع إنكاره، ذلك أنها تحتوينا في صوتها وفي نظرتها.. حيالها لا يمكننا الكذب ولا الإنكار..”.
السابق