الثورة – هفاف ميهوب:
من يقرأ أبجدية الأمومة جيداً، يشعر بأن الحياة تتعطّر بمفرداتها وتسمو بمعانيها.. يبحث عن سرّ عظمتها، فيجده في الصورة التي رسمها الأديب الروسي “مكسيم غوركي” في رائعته “الأم”.. الأم المتفانية والمعطاءة والمناضلة، والتي هي أيضاً، الأرض والكرامة والتّضحية.. الأم التي تحتوي ابنها وتدافع وإياه عن القضية التي استشهد من أجلها، والتي قد تموت دفاعاً عن هذه القضية، فتستحق أن تخلّدها رائعة هذا الأديب الذي آمن إيمانها:
“قلب الأم زهرة لا تذبل، وإنه لرائع أن تمشي وابنها جنباً إلى جنبٍ. إن مستقبلاً مضيئاً وخيّراً ينتظر البشرية إن حثّت الأم أبناءها على حماية السلم المجتمعي.. مستقبلٌ مفعمٌ بالأخوّة والتكافؤ الاجتماعي، يمكن للبشرية جمعاء أن تصل إليه..”..
هذه هي الأم.. الأم التي استحقّت أن تكون لغةُ التعبير الأجمل والأقدس لدى المبدعين، بل ونبض حياتهم وإلهامهم، والحنان الذي أغرقهم بدفئه، فانهاروا بعد فقدانه، إلى أن باتوا مرضى ومنعزلين.
إنه ماحصل للأديب الفرنسي “مارسيل بروست” الذي أدّى تعلّقه الشديد بوالدته، إلى انهياره بعد رحيلها، مثلما إلى شعوره بأنه فقد معنى وجوده.. شعر بذلك، فانعزل في غرفةٍ كان قد عاش فيها وإياها طوال أربعة وثلاثين عاماً، لا شيء يرافقه إلا ذكريات كلّ مراحل حياته التي قضاها معها، والتي استشعرها بعدها:
“لقد فقدتْ حياتي هدفها وعذوبتها وحبّها الأوحد.. لقد فقدتُ تلك التي كانت رعايتها المتّصلة تمنحني فيئاً آمناً، وحناناً هو شهدُ الحياة”.
إنه ما حصل أيضاً، للأديبة الصينية ـ الأميركية “بيرل باك” التي لم تكن لتفكّر بالكتابة أبداً، لولا رحيل والدتها وفقدانها لحنانها، وسعيها للبحث عنها، عبر ما تشعره وتتذكّره وتتخيّله يتدفق من كلماتها:
“كنتُ بأمسِّ الحاجة لوجود والدتي حيّة، لكنها رحلت فبدأت أبحث عنها في الكلمات، من أجل أن تبقى صورتها أمامي، وفي ذهن أطفالي”..
بيد أنه الرحيل الذي ألهمها أيضاً، كتابة “الأم”.. الرواية التي تناولت فيها وكما “غوركي”، رحلة حياة طبقة بأكملها، مجسَّدة في رحلة حياة أمّ كادحة، رحلة مليئة بالكفاح والشقاء في سبيل العيش في واقعٍ عادل وإنساني..
لا شك أنه الفقد الذي أفقد غالبية المبدعين معناهم وجدوى حياتهم، تاركاً لديهم أثراً بالغ الجرح، ينزفهم ويؤلم أفكارهم ومفرداتهم..
الأثر الذي قد يكون غصّة ودمعة وكلمة مبدعة، وربما لحن أو صورة أو حتى حكمة.. نعم حكمة، كتلك التي جعلت الشاعر والحكيم الهندي “طاغور”، يهيم بحثاً عن دفءِ الأمومة التي فقدها، ودون أن يجد هذا الدفء، إلا بين أحضان الطبيعة التي وجدها:
“وجدتها أمي الثانية، أمي التي جعلتني صديقاً للبيئة، مثلما شاعراً وحكيماً، أشعل شمعة واحدة لتنير الكون. إنها روحي”..