الثورة – رشا سلوم:
بين السياسة والطب والأدب رحلة طويلة قطعها عبد السلام العجيلي الذي تحل ذكرى رحيله هذه الأيام.. فهو النائب في البرلمان السوري حينها والوزير وفوق هذا وذاك المناضل في جيش الإنقاذ من أجل فلسطين.
كانوا يقولون عنه أروع بدوي عرفته المدينة.. ترك إرثاً إبداعياً متميزاً في الرواية والقصة وأعاد إحياء المقامات التي ازدهرت في العصر العباسي.
عنه يقول الناقد السوري فيصل خرتش: عبد السلام العجيلي، طبيب وكاتب ورحّالة وشاعر ومحاضر وسياسي ومقاتل في حرب فلسطين عام 1948، وفي كل فضاء من هذه الفضاءات، كان نسراً محلقاً، مثلما كان حمامة وديعة وحرفاً عذباً وأغنية آسرة، موجود دائماً على المفارق التاريخية الفنية العربية الحديثة.
محطات
ولد عبد السلام العجيلي عام 1918، في مدينة الرقة السورية، المدينة الفراتية الصحراوية التي تجمع بين الماء والغبار، بين الرقة وقساوة البادية، فكان ثمرة طيبة وناضجة لهذا التزاوج بين الأضداد المتآلفة للطبيعة والبشر، فكان في نتاجه كما في شخصه، متسقاً مع قناعاته التي هي في نفسه، مثلما هو مع «مراجعيه» المتطببين ومع شخصيات قصصه ورواياته أو مع البشر الذين صادفهم في رحلاته وربما هو مع الشخصيات الأدبية والثقافية التي قرأ عنها أو كتب، كما يقول عنه محمد كامل الخطيب في تقديمه له.
أعماله
نشر أولى مجموعاته القصصية «بنت الساحرة» عام 1948، فأعلنت المجموعة عن ميلاد معلم للقص والحكاية، ثم نشر «الليالي والنجوم» عام 1951، وهو ديوان شعر يحمل كل رقة العجيلي وصفائه، وجاء كتابه الممتع «حكايات عن الرحلات» 1954، ليعلن عن ذلك البعد الشخصي المحبّب من شخصيته، وأظهرت رواية «باسمة بين الدموع» عام 1959، الجانب المدني من شخصيته، وبعدها أتت «أحاديث العشيات» 1965، التي هي عبارة عن محاضرة تحوّلت إلى حديث أو حكاية مليئة بالمعلومات أو المفارقات القصصية.
كتب العجيلي المحاضرة أو ألقاها بأسلوب القصة وسردها الحكائي، وهذا ما منح «أحاديثه» نكهة خاصة لا تُنسى. فنشر «ذكريات أيام السياسة» 2002، وبين هذه الكتب نشر الكثير من الكتب الأخرى متعمّقاً في عالمه القصصي والروائي، وساحراً المستمعين بحلو محاضراته وعذب حضوره.
أما «المقامات»، فهي «معارضة ساخرة»، لفن المقامة، لكن بطريقة حديثة وعبر موضوعات ورسائل «إخوانية» أشبه بالمداعبة والمزاح بين الأصدقاء، وهي فن مبني بتقانة عالية، ما بين فن المقامة وفن القص، وهي عند العجيلي على فنيتها وعذوبتها أشبه ببوح الأصدقاء أو هدية مودة. يقول العجيلي عن مقاماته:
«بدأ الأمر فيها منذ سنين بعيدة، ألهية على مقاعد الدرس، عندما يكون الذهن منصرفاً عن متابعة ما يلقيه الأستاذ على تلاميذه، ويكون المقعد منزوياً عن أنظار الأستاذ في منبره، ويكون الأستاذ منشغلاً عن مراقبة الطلاب في مقاعدهم، كنت أتناول دفتر أقرب رفيق إليّ مجلساً فأزجي الوقت بكتابة جمل مسجعة على جلده أتناول فيها المدرسة والدروس، والمعلمين والتلاميذ بالمزح والتندّر والسخرية. ولا يزال كثير من الزملاء في تجهيز حلب، أو في جامعة دمشق يحتفظون بالدفاتر التي سجلت على جلودها، بطريقة السجع والازدواج، صفحات ساخرة ضاحكة على أنفسنا وعلى من حولنا وعلى الجو الذي كنا نعيش فيه في تلك الأيام الخوالي..».
ولم يكن يخطر ببالي في تلك الأيام أني أكتب مقامات، فلم يكن فنّ المقامات قريباً من إدراكي الفني قرب الشعر أو الدراسات الأدبية، بل لم يكن عدد ما قرأته منها يتعدى مقامتين أو ثلاثاً مما كان المؤلفون المدرسيون يختارونه في كتبهم للهمذاني والحريري، وغير حديث عيسى بن هشام للمويلحي، الذي اعتمد في تأليفه له على هذا الضرب من الكتابة. إلا ان هذا الطراز من الكتابة الساخرة، كان قد راق لمزاجي الفني على ما يبدو، إذ وجدتني في ذات يوم أنسج على منواله حين أردت أن أصف في أسلوب لاذع بعض مظاهر جو الدراسة الطبية كما كنا نتلقاها في المعهد الطبي العربي، وهو ما سمّي في ما بعد بكلية الطب في جامعة دمشق. وهكذا جاءت المقامة الطبية الأولى، التي كتبتها لتنشر في عدد خاص من مجلة «الصباح» الدمشقية، أصدرته الرابطة الثقافية في المعهد الطبي العربي عام 1942.
والحق أن تلك المقامة الطبية الأولى، التي ما أزال أفاجأ حين ألقى بعض إخواني، من قرائها حين نشرت، يحفظ بعض مقاطعها عن ظهر قلب، الحق أنها شجعتني بما لقيته من إعجاب وثناء على أن أتبعها بمثلات لها من طرازها. فكانت المقامة الحقوقية والطبية الثانية، وفيهما سخر بالجو الذي كان يسيطر على الدراسة الجامعية في معهدي الحقوق والطب في أيامهما، كما كانت رسائل إخوانية كتبتها على طريقة المقامات ردوداً على أصحاب كتبوا إليّ في الأسلوب نفسه. وذلك أن شهرة المقامات الأولى التي عرفت في أوساط الشباب المتأدب قد لصقت بي، في ذلك الحين، فأصبح اسمي مقروناً بها. حتى لقد كنت أتهم بكل ما ينشر في صحف تلك الأيام آخذاً أسلوب المقامات.
وظل بعض إخواني في تأثرهم بانطباعات قراءتهم لمقاماتي الأولى، يلقونني بين الحين والحين بالسؤال عن ذلك النتاج من أدبي، وعما إذا كنت أفكر في أن أنشر مقاماتي في كتاب مستقل. وكان بعض أولئك الإخوان في حسن تقديرهم لتلك المقامات، يصارحونني بأنها في نظرهم إذا لم تفق في قيمتها ما نشرته من قصص وروايات طوال خمسة عشر عاماً من الإنتاج الأدبي، فإنها لا تقل في حال عن أي نتاج لي مما هو منشور ومشهور.
والآن أراني قد جمعت هذه المقامات، وبعض ما يقاربها من أدب السخرية، لتنشر في هذا الكتاب المستقل. ترى لم فعلت هذا استجابة لاقتراحات إخواني المعجبين، أم استعادة لعبث الصبا والشباب أم إيماناً مني بالقيمة الفنية لما كتبت؟، ربما كان لكل من هذه العوامل نصيبه في إقدامي على ما فعلت. إلا اني في عزمي على نشر هذا الكتاب، لم أنس أن المقامات والمقالات التي يحتويها ليست مؤهلة، لنوعية كتابتها ولبعض ما جاء فيها ولذاتيتها المفرطة حين تدور كلها حول شخص الكاتب وأشخاص إخوانه، إنها ليست مؤهلة لأن يعجب بها كل الناس ولا ليقرأها كل الناس. ولهذا، فقد حرصت، مع العناية الزائدة بإتقان طبعها، على ألاّ تطبع إلا في عدد قليل من النسخ، لتكون في قلّتها في حِرز من أن تبذل أو أن تبتذل.