ميشيل كرشه… سمفونية اللون

الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
تستحضر مخيلتنا بين الفينة والأخرى مسيرة الفنانين الكبار ذات القامات العالية والرموز الخالدة كالفنان المُجلِّي (ميشيل كرشه) ابن مدينة دمشق ورائد الانطباعية، المعروف بتناغم ريشته وسرعة أدائه ودفء ألوانه من خلال أثر الريشة على القماشة البيضاء، حيث جماليات الزيتي والمائي والأحياء الدمشقية الرائعة ووجوه سكانها وكنائسها ومساجدها ونوفرة دمشق وبلودان والقصور والبيوت وكل ما يتعلَّق بالتراث الرافد، مؤكِّداً من خلال ذلك على الكتلة وسقوط الظل والنور عليها بأسلوب حديث في الحركة التشكيلية السورية المعاصرة إذ أسَّس لذلك مع كوكبة من الروَّاد أمثال: (توفيق طارق، عبد الوهاب أبو السعود، سعيد تحسين، خالد معاذ، صبحي شعيب، محمود جلال، أنور علي الأرناؤوط، رشاد قصيباتي.. إلخ) واتضح تأثُّره بـ (مانييه ورونوار) وإعجابه بـ (ماتيس) واضحاً في أعماله.
قال الفنان: -(كنتُ دوماً أُفضِّل الانطباعية التي هي أقرب ما تكون إلى ذوق شعبنا ورهافة حسِّه).
نشأته
ولد الفنان ميشيل كرشه في دمشق في حي القيميرية عام (1900)، وتخرَّج في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس، وشارك في عدد من المعارض مع أقرانه الفرنسيين، ثم عاد إلى دمشق بعد أن أمضى خمس سنوات تلميذاً على يد أستاذه لوسيان سيمون في معهد الفنون الجميلة، حيث درس التصوير الزيتي وفن الحفر بأنواعه (الزنكوغراف، والغرافيك). عمل مدرِّساً في ثانويات دمشق، كما درَّس الأطفال فن الرسم في الشارع المستقيم بدمشق، وفي مدرسة عنبر.. وكان معلماً ناجحاً في تعليم الطلاب مادة الرسم وتدريبهم على استخدام الألوان والأدوات، وتلقينهم أصول التصوير، إذ حرص على الخروج معهم إلى حديقة المدرسة طالباً منهم تأمُّل الطبيعة وتصويرها مباشرةً بالألوان دون الاستعانة بالتخطيط المُسبق للوحة، وهذا ما أكسب طلابه جرأةً كبيرةً في معالجة الموضوعات والثقة بالنفس.
تنافس مثمر
كان ثمَّة تنافس مثمر بين فناننا وبين المصوِّرَيْن: (سعيد تحسين، وعبد الوهاب أبو السعود) في عرض لوحاته في واجهة المكتبة العمومية بدمشق مقابل سينما الأهرام، وكانت المكتبة تعرض لوحةً لفنان تشكيلي من هؤلاء كلَّ أسبوع إلى أن صار ذلك تقليداً، ما ساعد على انتشار سمعة الفنانين الثلاثة، وكان هواة الفن ومحبُّو الفنون الجميلة ينتظرون يوم السبت بفارغ الصبر ليشاهدوا اللوحة الجديدة التي تعرضها المكتبة في ذلك الأسبوع، كما ساهم كرشه في تأسيس عدد من الجمعيات الفنية خلال أربعينات القرن العشرين وإقامة المعارض حتى وفاته في عام (1973).
شارك التشكيلي (كرشه) في المعارض المنظَّمة من الدولة وفي التجمعات الفنية، وأقام عدة معارض شخصية، ولعلَّ أهمَّ مشاركة له كانت في المعرض الرسمي الأول الذي نظمته وزارة المعارف السورية لثلاثين فناناً تشكيلياً سورياً من جميع المحافظات في المتحف الوطني بدمشق عام (1950)، وكان يحبُّ الإسهام في الندوات الفنية المنظَّمة على هامش المعارض، ومن هذه الندوات: ندوات مديرية الفنون الجميلة في المتحف الوطني، وندوات صالة الفن الحديث العالمي عام (1964)، ويُعدُّ ميشيل كرشه من أكثر الفنانين إنتاجاً وأنشطهم عملاً وأكثرهم متابعة للمعارض والأنشطة والفعاليات الفنية التشكيلية في سورية، وقد نال وسام الاستحقاق السوري لتفوقه في معرض فلوريدا الدولي، كما نال جائزة تصميم الطوابع الدولية عام (1933) من أميركا.
ميشيل كرشه يرفع لواء الحداثة
حمل ميشيل لواء الحداثة التعبيرية في مدارسها الفنية المختلفة ولمع اسمه كفنان متمكِّن في عالم عصر النهضة الإيطالية، وما أعقبها من تيارات.. كما عالج الموضوعات الاجتماعية بين الصور الشخصية والمشاهد داخل البيوت والمقاهي والمتنزَّهات.. إلخ.
علم من أعلام سورية
بدت أسطح منازله ودوره تضجُّ بالحركة والعمل بينما غلَّف المدى بهالات من الألوان الشفَّافة الرقيقة، ورفع خط الأفق في معظم أعماله عالياً كي يفسح المجال لتفاصيل كثيرة بالولوج.
قال الفنان: -(لا يُمكنني أن أرسم أو أصوِّر الجوع من دون أن أُعانيه.. ما يخرج من القلب ينفذ لا محالة إلى القلب)، لنرى انعكاس مشاعر الفنان على نتاجه الفني وحرصه على تجسيد الواقع بأمانة فهو يُظهر عواطفه الجيَّاشة أثناء عملية الرسم التي يُنفِّذها بسرعة مُذهلة خلال عدة دقائق فقط، مُجسِّداً ما يعتمل في خلجات نفسه. وبما أنه ركَّز على الانطباعية فقد اهتمَّ بإشراقة الضوء، ولمسات النور كونه كان يرسم في الهواء الطلق ليعطي لأعماله تناغماً وعفوية في لمسات ريشته، وأحياناً شيئاً من الطفولة والموسيقا والحركة، إذ يخرج من كلِّ ذلك في النهاية بتجانسٍ متين في العناصر والأشكال والمشاهد الطبيعية والإنسانية ضمن إيقاعاتٍ لونيَّة تتداخل فيها بعض الخطوط الناعمة مثل: (غروب الشمس، منازل البدو)، كما نرى حركة الخطوط اللطيفة الناعمة أمام البناء الساكن لتجاوز حدود الشكل الإيضاحي والتعبير العقلاني والوصول إلى التشكيل الانطباعي والتعبير الحديث الذي يُحرِّك الظلال والألوان الخانقة ويمنح الأشكال المرسومة كثيراً من الحيوية ويضفي ألوان متوهِّجة وثَّابة في أوقات معينة من شروق الشمس، ناقلاً لنا روعة إيقاع النور.. اللون المغناج، المتتابع في فراغ السطح التصويري وإعطاء أهمية لدفق الحالة العاطفية التاركة أثراً على سطح اللوحة، إذ نشاهد اللمسات الضوئيَّة والظل والنور الواضحين، كما استخدم ألوانه المائية والزيتية ضمن توليفات من الألوان المشرقة والهادئة ليلتقط انعكاس أشعة الشمس على المشاهد والشخوص التي يرسمها.
أسلوبه
عُرفَ ميشيل كرشه بجرأته وثقته التامة بموهبته، وكان يبدأ عمله برسم الشكل المعماري الأساسي للموضوع، ثم يُحدِّد منطقتي الظل والنور ليدمج اللونين اللذين استخدمهما في بداية اللوحة فيؤلِّف منهما درجة كوسيط بينهما يضعها لوناً أساسياً لأرضية اللوحة، وكان يعتني برسم العناصر المتحرِّكة أمامه إن كان إنساناً أم طيراً أم حيواناً مثل لوحة (شارع بغداد) التي صوَّرها من نافذة منزله فرسم السيارات والأشخاص العابرين في الشارع مع انتباهه لكلِّ الأبعاد والنسب، وكان الظل أو النور يُحدِّد زمن رسم اللوحة، أما في الأبنية المعمارية فركَّز ميشيل على توضيح التفاصيل ليؤكِّد هوية المكان التي تُميِّزه عن غيره، كما اهتمَّ بدقة الناحية الهندسيَّة والمنظور والشكل المعماري، مستخدماً في لوحاته ألواناً عدَّة في اللمسة الواحدة دون أن يفقد خصوصيتها الفنية، بل كان يجمعها معاً دون مزجها مزجاً كاملاً.
أما المناظر الطبيعية فقد اهتمَّ بالبعد الهوائي ليوهم بالأبعاد بوساطة تخفيف ألوان الأشياء بما يتناسب وبعدها عن النظر، بحيث يشعر المتلقِّي بأنَّ طبقات من الهواء تحجب عنه التفاصيل البعيدة. فبدا إبداعه واضحاً في فنه الخالد وانتمائه إلى الإنسانية ظاهراً في قوله:
-(أنا أنتمي إلى البشرية جمعاء أينما وُجدت من أقصى شرق الأرض إلى أقصى غربها، ومن أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها).
                            

العدد 1186 –23-4-2024       

آخر الأخبار
تسويق  14 ألف طن قمح في حمص تحضيرات امتحانات المحاسبين على طاولة "المالية" " صناعة حسياء " تصدر 46 قراراً صناعياً منذ بداية العام  الدفاع المدني يزرع قيم التطوع في نفوس الأطفال من بوابة الفن   الهيئة العامة للطيران المدني تنفي إغلاق مطار دمشق وتؤكد استمرار العمل دون عوائق  استرداد أكثر من 16 طن كابلات مسروقة بدير الزور القنيطرة.. تدريب النساء على تربية النحل والنباتات الطبية والعطرية  بعد المنحة التشجيعية زاد استلام القمح..  3400 طن قمح في مراكز دير الزور    علي خامنئي… مرشد الثورة وباني إمبراطورية الظل الإيرانية انطلاق امتحانات الفصل الأول في معاهد جامعة الفرات  هجمات جديدة.. ترامب يهدد وخامنئي يرفض الاستسلام ويتوعد إنتاج وفير لمشمش غوطة دمشق الشرقية  بين ضعف التسويق وانعدام التصدير   من الحرب الى التحدي الرقمي .. لماذا لاتصل التكنولوجيا الى السوريين؟  سوريا في قلب التأثيرات الاقتصادية. تضخم وازمة توريدات مخاوف من استمرار الحرب الإيرانية- الإسرائيلية... الأوقاف الإسلامية.. آلة مالية ذكية لإعمار المستقبل  ما تحتاجه سوريا اليوم خريطة وقفية اقتصادية   جديد الاقتصاد.. مديرية التقانة والتحول الرقمي تعزيزاً للاقتصاد..إقرار نظام جديد للاستثمار في المدن الصناعية نقل دائرة السجل المدني من جرمانا يفاقم معاناة الأهالي  The National Interest:  دول الشمال العالمي  مسؤولة عن نصف إجمالي الانبعاثات الكربونية  سوريا تختار الحياد.. التركيز على الشأن الداخلي وتعزيز الحضور الدولي