أقامت مؤسسة (مدد) قبل وقت قصير معرضاً في الباحة الخارجية لمبنى البريد المركزي بدمشق، شارك فيه منتسبو ورشة العمل التي نظمتها المؤسسة مطلع الربيع الحالي وكان أحد محاورها الأساسية ما يمكن وصفه بكلمتي: بقلم الفنان.
ليس المقصود قلم الكاتب، ولا المقصود ريشة الفنان.. وإنما قيام الفنان بتقديم معرضه، أو تجربته، وهو تقليد غير شائع للأسف في حياتنا التشكيلية، حيث يفضل الفنانون غالباً أن تقدّم أعمالهم من أسماء أدبية متألقة، تمتدحها بكلمات منمقة، حتى لو لم تقدّم للمتلقي ما يفيده في (قراءة التجربة).
من المؤكد أن اهتمام الأدباء بالفن التشكيلي، قدّم له خدمة لا تقدّر بقيمة. فقد أوجد جسور الاتصال الأولى بين اللوحة والجمهور الذي لم يكن قد ألفها بعد، لكنّه في الوقت ذاته فرض على اللوحة رؤية أحادية الجانب تعنى أساساً بموضوعها وجمالها، دون التفات إلى جوانبها التشكيلية والتقنية وساعد في هذا ميل معظم الفنانين في تلك المرحلة إلى الأساليب الواقعية والانطباعية. ومع ظهور التيارات الحديثة تباينت مواقف كتّاب الفن التشكيلي حيالها، واتخذت الكتابات حول التجارب الحديثة اتجاهات عدة منها التأكيد على مضمون العمل الفني، وأحياناً مضمونه السياسي، وقبول العمل الفني أو رفضه على هذا الأساس. كذلك التأكيد على المحاكاة والشبه ورفض الاتجاهات الفنية غير الواقعية كلياً. إضافة إلى محاولات كتابة نص أدبي موازٍ للعمل الفني الإبداعي.
كانت نتيجة كلّ ما سبق ظهور فئة جديدة من الكتّاب الذين استسهلوا الكتابة في الفن التشكيلي نظراً لسهولة الشروط السابقة بالنسبة لهم، وصارت الكثيرمن الكتابات التي تنشر باسم النقد الفني أكثر ابتعاداً عن الجمهور، بل وصل بعضها إلى مرحلة العجز الكامل عن خلق أي صلة مع جمهور القراء، لميلها لاستعراض الإمكانيات الأدبية، أو إطلاق الأحكام القاطعة المتسرعة التي لا تحمل مبرراتها والتي تسقط في مجرى كيل المديح أو الشتائم للفنان ودون سبب في الحالتين. أو التعالي على الجمهور باستخدام مفردات وتعابير جاهزة لا تعني شيئاً حتى بالنسبة لقائلها. وكما في النشاطات الثقافية جيعاً كان لا بدّ من نشوء فئة تستسهل الكتابة وتقدرعلى ايصالها إلى صفحات الصحف والمجلات، لكنها لم تستطع تقديم شيء لصالح العمل الفني لأنها ببساطة لا تمتلك ما تستطيع تقديمه.
هنا تجب ملاحظة أن الكتابات النقدية تضع في اعتبارها أنها تتوجه إلى جمهور لم تتح لمعظمه فرصة امتلاك ثقافة فنية – وقد لا يكون هذا ذنبه – لذلك تسعى للقيام بدوري التعريف والتقويم بآن واحد، وهذا الواقع يجعل الكتابات الفنية عندنا تأخذ أشكالاً مختلفة بين الساعية لتقديم المعلومات الأولى لجمهور لا يعرفها، إلى المعنية بمخاطبة جمهور يمتلك ثقافة فنية عالية وحساً جمالياً متقدماً، غير أن معظم الكتابات تضع في اعتبارها أنها تتوجه إلى جمهور لا يملك ثقافة فنية. ولكن ما العمل حينما يتصدى واحد من هذا الجمهور للكتابة في الفن التشكيلي، أو ما يعتقد أنه نقد فني فيطلق الأحكام القاطعة، ويسوق الاستنتاجات المتكئة على مقدّمات خاطئة.
بالمقابل فإن تقديم الفنان لتجربته يضعها في مسار الرؤية الصحيحة لها، ويعمق بعديها المعرفي والفلسفي. ويتيح للناقد والمتلقي القراءة الصحيحة لها. وقد شاع مثل هذا الأمر بين كثير من الفنانين أصحاب التجارب الطليعية الذين قدموا ما يشبه البيان التشكيلي عن تجاربهم، وكان لهذا الأمر أهميته الكبرى في تاريخ الفن، وليت فنانونا يعتمدون هذا التقليد، فقول: “لو كنت أتقن الكتابة لما رسمت” لا يصلح تبريراً رغم شيوعه..