الثورة – سعاد زاهر:
خطف فيلم Anora “أنورا” الأضواء في حفل توزيع جوائز الأوسكار للعام الحالي، جامعاً بين المجد النقدي والجماهيري، لم يكن مجرد فيلم مستقل بميزانية (نحو 6 ملايين دولار)، بل تحوّل إلى ظاهرة سينمائية حصدت خمس جوائز أوسكار، أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل ممثلة رئيسة، أفضل نص أصلي، وأفضل مونتاج، وسبق ذلك تتويجه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 2024، لترسخ مكانته كأحد أهم الأعمال السينمائية في العقد الأخير، هذا النجاح لم ينبع من الصدفة، بل من قوة الحكاية وجرأة الإخراج وصدق الأداء.
تدور القصة في شوارع بروكلين، حيث تعمل أنورا، المعروفة بـ”آني”، كراقصة تلتقي في إحدى الليالي بفانيا، نجل ملياردير روسي، وتنجرف معه في علاقة خاطفة تنتهي بزواج مفاجئ في لاس فيغاس، لكن العائلة الثرية ترفض هذا الارتباط، وتُرسل مجموعة من الرجال لإجبارها على الطلاق، ليتحول المسار من رومانسية ساخرة إلى مطاردة قاسية بين طبقتين، عالم المال الفاحش، وحياة الهامش بين النوادي الليلية والفنادق الفاخرة، ويظل الخيط الرفيع بين الحب والمصلحة، والكرامة والانكسار، حاضراً حتى المشهد الأخير.
قدمت مكي ماديسون أداءً استثنائياً بدور أنورا، ممسكة بتناقضات الشخصية بين هشاشتها الداخلية وقسوتها المكتسبة، أداؤها الطبيعي والآسر جعلها تحصد أوسكار أفضل ممثلة عن جدارة، وإلى جانبها جسد الممثلون الثانويون، من فانيا المدلل إلى رجال العصابة الباردين، شخصيات نابضة بالحياة، لتبدو جميع التفاعلات على الشاشة حقيقية حد الوجع.
أبدع المخرج شون بيكر في تقديم فضاءات الفيلم كجزء من السرد، أضواء النيون الخانقة في النوادي، ألوان الشقق الفاخرة الباردة، والثلج الرمادي الذي يغلف النهاية، الكاميرا تتحرك بحرية بين الواقعية القاسية واللقطات الحميمية، لتجعل المشاهد شريكاً في تجربة البطلة، لا مجرد متفرج.. الإضاءة والديكور لم تكن مجرد خلفية، بل عناصر دلالية تكشف الفوارق الطبقية وتعري زيف البريق.
في اللحظات الأخيرة، تجلس أنورا داخل سيارة متوقفة في شارع مغطى بالثلج، بجوار “إيغور” أحد الرجال الذين أُرسلوا لتفكيك زواجها، لا موسيقا ولا حوار مفرط، فقط صمت يتخلله نفس بارد يختلط مع دخان الزفير، عيناها تتأمل الفراغ، لكن ملامحها توحي بوعي جديد، ليست خاسرة ولا منتصرة، بل ناجية من لعبة أكبر منها.
رمزياً، يمثل هذا المشهد مواجهة مباشرة بين السلطة والحرية، فالسلطة تجسدت في العائلة الثرية ونفوذها، وفي إيغور الذي بدأ كأداة للقمع وانتهى كشاهد على هشاشتها، أما الحرية، فهي في نظرة أنورا الأخيرة، ووعيها بأنها لا تملك المال أو النفوذ، لكنها ما زالت تملك إرادتها في أن تبقى واقفة وسط العاصفة، الثلج هنا ليس برودة الطقس فقط، بل تجمّد العالم الخارجي أمام دفء لحظة إنسانية عابرة، تعيد تعريف النجاة بعيداً عن الانتصار أو الخسارة.
تميز Anora في مزجه بين الكوميديا السوداء والدراما الاجتماعية من دون أن يفقد التماسك، لم يقدم القصة كبكائية عن فتاة ضحية، ولا كحكاية انتصار رومانسية، بل كتأمل في هشاشة الحلم الأميركي حين يختبره الواقع الاقتصادي والاجتماعي، النص الأصلي حاد الذكاء، يوازن بين الحوار الخفيف والمواقف المكثفة، والإخراج يحول المشاهد البسيطة إلى لحظات عاطفية طاغية، ذلك كله في عمل مستقل ينافس ويهزم الإنتاجات الضخمة.